السيد فاروق محسن أبو العبرة
لاشك أن بعض الشخصيات الإلهية استطاعت أن تغير مسار التأريخ، وأحدثت انقلاباً في الموازين، والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من أولئك، كيف أنه اختزل وطوى الزمن، بعطاء لم تحفظه الأمة، بل على العكس قابلته الأمة وأولاده بعدم الانصاف، وبمسائل باطلة وظالمة تناقلتها الأجيال، عانوا منها أتباعهم ـ الشيعة ـ وتضرروا بها جراء ما أحدثه الأوائل في الأحاديث، والأقوال والأفعال ضدهم، فخلطوا الأمور على الأمة، لإبعادها عن اكتشاف تلك الشخصية العظيمة الإمام علي (عليه السلام)، وفكر أهل بيته (عليهم السلام).
وكم ترشح من هذه القضية، وصار من المسلمين لهم أعداء، بعد أن انتشر لون من التهم والتزوير، أوغرّ صدورهم، فكم من المسائل التي يجب أن يرتاع منها المسلمون، يرون أنفسهم في دوامة الحنق، والنقمة، على النظام الذي يسير بركب علي (عليه السلام) وأولاده، على الرغم من المكانة المقدسة التي أولاها لهم الله، ورسوله، وكم من المعاناة، وشدة الأذى، الذي كان، وما زال يُمارس بحقهم، فهل يليق أن تأتيهم من المسلمين السهام؟
نعم إن الذي خلط على الناس دينهم، سيجعل الناس يدفعون الثمن مستقبلاً، لعدم علمهم بالحقيقة الانتهازية، التي تصرّف بها أولئك، وعن المكتبة الإسلامية المليئة بالأكاذيب، والموضوعات، ولو علموا أنهم تعرضوا إلى نقطة فشل في عقيدتهم، حتماً لا يسمحون أن يكونوا ضحية قضية اختلف الصحابة تجاه تفاصيلها، وهذا الذي عقّد المسألة، وأربك الوضع، أمام مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وأمام الوصية التي تركها النبي (صلى الله عليه واله) لعلي (عليه السلام)، ويقول (صلى الله عليه واله): (لا تصلح النبوة إلا لي، ولا تصلح الوصيّة إلا لك، فمن جحد وصيتك ــ أي خلافتك ــ جحد نبوتي، ومن جحد نبوتي أكبه الله على منخريه في النار)(البحار: 35/35).
وحين (سؤل رسول الله (صلى الله عليه واله) ألست بإمام الناس، فقال (صلى الله عليه): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي، ويقومون في الناس، فيُكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر، والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم، وصدقهم، فهو مني ومعي، وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني، ولا معي وأنا منه بريء)(بصائر الدرجات: 54).
ونتساءل لماذا لم يؤخذ بكلام رسول الله(صلى الله عليه واله) ؟ مع أن النبي(صلى الله عليه واله) طيلة عمر الدعوة كان ينادي بطرق مختلفة، على وجوب طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعدم منازعته، أو منافسته على حقه في الخلافة، والنصوص قطعية من القرآن، والسنة على ذلك، بأدلة واضحة على شرعيته، بطريقة لا يمكن التغطية عليها، أو الشك فيها.
ولو أُريد الآن تصحيح ما في ضمير الأمة من جديد، على ضوء التراث الإسلامي، وتنقيته، والتشديد على التحاكم إلى مبدأ العقل، والحق، والإنصاف، الذي هو من أفرض الواجبات اليوم، سيعاد للناس رشدهم، ونحن على يقين أن كل الذين خاضوا تجارب الطوائف، وآراء المذاهب، ممن يريدون للحق أن يسود، ويصححوا على ضوء منهج أهل البيت (عليهم السلام)، ويطبقوا معهم نظرياتهم الإسلامية، وفقههم، ومعتقداتهم، سيرون الفارق العظيم في تذوق طعم الإيمان، والإسلام الحقيقي بلا زوائد.
وهذ التأريخ يأبى إلا أن يدوّن المجد للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، للمواقف الكبيرة، وللحوادث التي كانت سبباً في نجاح الإسلام، وانتشاره، وكم من الأمور التي أفرزت علياً (عليه السلام)، أنه يرى الأشياء كما كان يراها النبي (صلى الله عليه واله).
الإسلام حفظ لعلي(عليه السلام)، وأولاده العرفان، لما قدموه من مناقب للأمة، ولكن الأمة لم تحفظ لهم فضلهم، ومقامهم، فعاملوهم بجفاوة، وعاملوا أولاده بقساوة، وأتباعهم بعداوة.
ألم يكن الامتياز الضخم الذي حُظي به الفكر الإسلامي، هو أثر من تراث علي (عليه السلام)، وأهل بيته (عليهم السلام)؟!! ولكل نابغ من المسلمين كان هو المؤسس لهم بعد النبي (صلى الله عليه واله)، حتى قامت على أكتافهم الرسالة، وإلى الآن، ماذا تريد الأمة من علي (عليه السلام)؟ إمام حدود، وإمام صدق، وعدل، وإخلاص، مفكر عظيم، تعيش الشريعة بروحه، ودمه، والإسلام قضيته الأولى، عيّنه الله، ورسوله لهم إماماً، وخليفة، ابن عم الرسول (صلى الله عليه واله)، وزوج ابنته، وأبو ولديه، قام الإسلام بسيفه، ولد في الكعبة، وقُبض شهيداً في محراب مسجد الكوفة، أقضى الأمة وأشجعها، وأعبد الناس، وأحكمهم، وأبلغهم، وأورعهم. والصنديد في حكمته، والبطل الكرار في شجاعته، المجاهد الذي لم يتوانَ للحظة واحدة عن جهاد المشركين، والمنافقين، والعرب كانت تفتخر أن يكون من أبنائها من يقتل بسيفه، ويقول: (والله لو اجتمع عليّ أهل الأرض لما وليت مدبراً). وكان يسلف النصيحة لمن يقاتله، ليحتج عليه بحقه، وهو القائل: (ما شككت بالحق منذ رأيته) وكان لا يريد أن يحبه أحد، أكثر مما فيه من الحق، سيد البيان، عالم، فقيه، راسخ في العلم، باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه واله)، لا يرجع إلى أحد، ويرجع الكل إليه، ومن أعدائه من انبهر بعلمه، فقال: (قاتله الله كافراً ما أفقهه).
هكذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام)، بعضهم وصل من شدة الحسد، والحقد، إلى عصب عينيّه، وسدّ آذانه، لئلا يرى، أو يسمع، ذكرا لأبي تراب عليه السلام، فمن هنا لا ترى في قلوب الشيعة عرشاً بعد النبي (صلى الله عليه واله)، غير عرش علي (عليه السلام). ومن المهازل، كل هذا المجد الذي صنعه علي (عليه السلام)، تسلمه أولاد البغايا، أمثال معاوية، ومروان وسائر بني أمية، وبني العباس.
فمن الذي أُوتي مثل ما أُوتي علي(عليه السلام)، من كمال الصفات، والذات؟ فهو كما زرع الاعجاب في قلوب الناس، زرع حقداً، وكراهية لمن في قلبه مرض، وصاروا يعصون الله عز وجل من خلاله، فما عاد يعنيهم بقدر ما يعنيهم إبعاد علي(عليه السلام)، عن وجوه المسلمين، فانقادوا إلى مستنقع عظيم من الحسد، لفضائله التي فاقت حد التصور، يتبع بعضها بعضاً حتى مع الحجب، والتضليل، وهو قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) .
ولا يخفى أنه لشدة يقينه أرعب الكثيرين في حياة النبي(صلى الله عليه واله)، لئلا يتجاوز أحد على قيم الإسلام، والمسلمين، وألا يُعتدى على النظام الإسلامي، أو ينظر من ينظر في مصلحته، دون مصلحة الأمة، فهذا التوضّع من الاستقامة، خلق له أعداء كًثًراً، فمن كثرة من تفرق عنه، قال (عليه السلام): (ما ترك لي الحق من صديق) ، فالمسيرة المليئة بالحق، لا تلائم الكثيرين الذين هم للحق كارهون، فمن الطبيعي يكرهونه (عليه السلام)!!! فكم أرادوا منه أن يمزج الحق بالباطل، ولكنه أبى، وجسدت الزهراء (عليهم السلام) ذلك في قولها: (نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله تعالى)، ولهذا انهالت عليه الهموم، بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله)، وثقلت عليه الأيام، وتواردت عليه السهام، وهو يرى الحقوق تتملص، فدخل صراعاً مريراً ليعيد الحق إلى نصابه، ولكن بلا جدوى، فالجموع متراصة، كانت على موعد لتعترضه، وتسوي أمراً، فخافوا من الحق الذي تبناه، فتواردت عليه المكائد والفتن في مدة خلافته، كما كانت في أيامه الأولى، عادت جاهلية القوم لتنتقم منه، وهو يرى عواصف الشر تعصف بالناس، فلم يجد أمامه إلا الزفرات، التي كان يطلقها، والكلمات التي كان يختنق بعبرتها، وهو يشير إلى النعل، والله لهي أحب إلي إمرتكم، إلا ان أقيم حقا، أو أدفع باطلا(مستدرك الوسائل: 16/301).
وكان عليه السلام يردد:(فو الله ما زلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه واله))
وما أقعده عن حقه في الخلافة، بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله) إلا لأنه يحارب لله، ويسالم لله، وإن تضررت مصالحه، دون مصالح الإسلام، والمسلمين، وبالرغم من كل ذلك – وإن كان خارج العملية السياسية – يرى أن من واجباته ألا يتخلف عن الأمة، في عطاء علمي، أو فكري، أو معرفي، أو بأي نوع من الاستشارة، أو في حل المشاكل، والمعوقات، ويواسيهم، ويقول :(أأُقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش) .
ألم يذكر التأريخ أن في حكم الخلفاء الثلاث كانوا يرجعون إليه؟ في كل معضلة تعترضهم، ولم يجرأ أحد أن يتقدم ليفتي، وعلي (عليه السلام) موجود.
نعم؛ الإسلام بحاجة إلى نوعية علم، وحركة مثل هذا الإمام العظيم في القيادة، وفي عملية التغيير، للإصلاح العلمي، والفكري، يلملم شمل الأمة على ضوء تمام القرآن، وتمام السنّة، ليواجه بهما تمام الجهل، والانحراف، وهذا كله استمده علي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه واله)، جمع خُلقه العظيم، وتطبع بفضائله، حتى أن الشبه بينهما كان كبيراً جداً، في سلوكه، وفي طريقة التفكير.
وهذا واضح أنه من وقت مبكر كان النبي (صلى الله عليه واله) يهيئ علياً (عليه السلام)، منذ أن تبناه، وأشرف على تربيته، حتى قال هو (عليه السلام)، واصفاً علاقته بالنبي (صلى الله عليه واله):(وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه واله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به)(نهج البلاغة: 3/157)، فانعكست هذه العناية المستمرة على سيرة الإمام علي (عليه السلام)، وعلى شعوره.
فليس صدفة جمعهما العمود النسبي معاً، ودبر لهما مصيرهما المشترك، فمنذ أن أسلم علياً (عليه السلام)، وهو ابن تسع أو عشر سنين، أخذ يشعر أنه المسؤول عن حفظ النبي (صلى الله عليه واله)، ورسالته، بكل ما وهبه الله من قوة، فكان يدافع عنهما دفاعه عن نفسه، والنبي (صلى الله عليه واله) كان يشعر بحرص علي (عليه السلام)، وحماسه، واهتمامه، فشرع بتعليمه، واهتم به اهتمام من يريد ألا يحجب عنه شيئا مما يعلمه، فانكب عليه يناجيه، ويسر إليه، حتى نساء النبي (صلى الله عليه واله) غرن منه، إذ لم يفارقه، وبقي ملازماً له كظله حتى آخر لحظات حياته، فالتأريخ الإسلامي أشار لذلك في مضمار الإعداد الرسالي لعلي (عليه السلام)، الذي هو بتوجيه رباني، من قبل البعثة وبعدها، قام به النبي (ص)، إثراءً لقدراته وتنمية لقابلياته، حتى ظهرت الثمار في إنجازات الإمام علي (عليه السلام)، ورسول الله (صلى الله عليه واله) ما كان ليعطي أحداً كعطائه لعلي (عليه السلام)، وأراد من المسلمين أن يروه كما يراه هو (صلى الله عليه واله)، وكم قال (صلى الله عليه واله):(هو نفسي، وأخي، ووزيري، ووصييّ، وخليفتي، وحامل لوائي، وساقي حوضي).
والتأريخ يذكر، كيف أن جماهير المسلمين سحبت علياً، عنوة إلى مسند الخلافة، إبانّ قتل عثمان، لأنها شعرت وقتئذ بحجم الظلم الذي لحق بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذهبت إليه تهتف أن لا خليفة غيره، وكان متمنعاً، وقبلها على مضض، وحين جلس ليحكم، أعاد إلى الأذهان عدل الإسلام، وعدل النبي (صلى الله عليه واله)، ولم يجبر أحداً على بيعته، ولم ينقص من حقوق معارضيه من بيت المال، ولم يميز نفسه، وعشيرته، بعطاء، ولم يشتكِ المسلمون ظلماً في عهده، بل كان هو الذي يشكو ظلمهم له.
وكان ينفق كل ما في بيت المال، ويكنسه، ثم يصلي فيه، وقاية لنفسه من مسؤولية الحساب، وهو القائل عندما رأى تلك الأموال تهدر بغير حق: (والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة(نهج البلاغة:1/269)، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق) ، من هنا نرى أنه كان عازماً على التصحيح الشامل في الدولة، ولكل ما حصل من أخطاء، وتجاوزات، أراد إعادتها إلى نصابها من العدل.
فباختصار لم تكن النصوص وحدها هي التي رفعته، ولكن وسائل فيه أيدت صحة دعواه للإمامة، ولأنه استصغر الدنيا، واحتقرها، كبّر حين ضربه اللعين (ابن ملجم)، وقال: (فزت ورب الكعبة)، فمن يكون أكثر منه راحة واطمئناناً على آخرته !!
وأخيراً خلص إلينا، أن علياً (ع) بعد أن فارق الدنيا، أبى إلا أن يكون إنساناً عظيماً، وإماماً هادياً، ورجلاً خالداً.
تم النشر في مجلة الولاية العدد 132