اشتَهَر العرب مُنذ القِدَم بالشّعر، اذ يعد خلاصة للتجارب الإنسانية، ومصدرا لتدوين معارفهم المختلفة، وتنطبق هذه الحالة على الشعر العربي، فنجد فيه من الحكمة والمعرفة ما يكفي لتثبيت هذه الفكرة، ولهذا كَثُر استخدام مصطلح ( الشعر ديوان العرب )، فهو طريقتهم للتعبير عن حالاتهم من حزن وفرح وشعور بالانتماء، ومصدر فخر لهم وأداة للدفاعِ عَن المبادِئِ فِي مُواجَهَةِ الخصوم.
ولادة شاعر ظاهرة يحتفى بها
وقد كانَت العَرب تُقيم الأفراح إذا ظَهَر مِن أبنائها شاعِر مُبدِع ، لأنّ الشّعر كان يَرفَع مِن قِيمَة القبيلة وَيُغَيّر مِن مَكانَتِها إلى الأفضل بَين القبائل ، وإذا أمعنّا النظر في تأريخ الأدب عامة والشعر خاصة ، نجد أن هناك أهميّة كبيرة للشعر باختلاف الوقت والمكان ، وهو لسان العرب وسبيل اظهار تفردهم البلاغي والنحوي وكذلك فعندما أبهر النبي (صلى ألله عليه وآله) العرب بمعجزة القران الكريم وصفوه بالشاعر لسحر البيان الذي يلقيه عليهم في آيات القرآن الكريم حتى فند القرآن ذلك في سورة يس بقوله تعالى((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)) (يس – 69).
الشعر وروح الإسلام وقيمه
والشعر الذي جبل عليه العرب لم يكن كله ملائما للمجتمع الإسلامي الذي عمل النبي (صلى ألله عليه وآله) على تهذيب جميع مفاصله وتأسيس بناه الدينية والاجتماعية ، ولم يشجع الإسلام على التباهي والتفاخر بالشعر إلّا بما يتصل بالإسلام ونصرة الدين فكان الشعر هو السلاح ذو الحدين الذي يدان به أو شرف الشعراء، كلا بحسب انتمائه وشعره دون أن يهمله.
فهو بذلك هذب المفردة الشعرية من لغو الجاهلية ووضع شروطا للقصائد منها الصدق وتوافقه مع الشريعة ويشترط في الشعر أن يوضع الشعر في موضعه الصحيح فيكون وسيلة لا غاية ، فإذا كان وسيلة لغاية نبيلة نبل الشعر وعلا وازداد جمالا ، وإذا كان غاية صار فارغا من المعنى ، وانقلب هيكلا يبدو للناظر حلو الشكل ، ولكنه سرعان ما يذوب عندما يوضع على محك الواقع فهجر الشعراء معظم الأغراض الشعريّة التي تتنافى مع تعاليم الإسلام.
الشعر مدافع عن الإسلام ومبلّغ
واستخدم الإسلام برجاله الشعر كوسيلة مِن وسائِل الدفاع عَن رسالَة الإسلام ضد المُشرِكين، فكان حسان بن ثابت يكثر من الإنشاد في مدح الاسلام وهجاء المشركين بل ان شعر المسلمين الأوائل استخدم احيانا كمصدرٌ لفهم التراث الديني فهو يضمّ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
ونتيجة لذلك فقد تأثر الشعراء منذ سنوات الإسلام الأولى بالمعطيات الدينية التي أتت بها العقيدة الجديدة فضلا عن تأثير الأسلوب القرآني في المضمون الشعري للقصيدة فكان على الشاعر المخضرم في هذه الحالة إما أن يعيد تشكيل نفسه وشعره حتى يواكب الجديد مثل ما حدث عند عدد من الشعراء؛ منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم أو أن يلتزم الصمت ويكتفي من قول الشعر.
فن وروح شعرية جديدة
وفي هذا الجو من النقاء الفكري العقائدي تفنن الشعراء بقصائدهم ليدافعوا عن الدين بالكلمة الصادقة حتى صدق فيهم قول النبي (صلى ألله عليه وآله) (إن من الشعر لحكمة) فقد أثرت الآيات القرآنيّة في الشعر العربي بالكثير من الألفاظ والكلمات الجديدة، فشاعت ألفاظ مختلفة ومتنوعة، كما رقّت الألفاظ التي استعملها الشعراء، وأصبحت تراكيبهم وأساليبهم أكثر عذوبة وسلاسة ، فعلى المستوى اللغوي، وضوح اللغة المستخدمة كان من السمات البارزة لذلك العصر فهي لغة سهلة ولينة، بعيدة عن الغموض والغرابة والرموز المبهمة، ومن الأمثلة ما قاله حسان بن ثابت والذي كان يعرف بشاعر الرسول لكثرة ما قاله من مدح في رسول الله صلى الله عليه وآله:
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشــاء
كمااستخدم المسلمون الشعر كوسيلة للدعاية والفخر بالهوية الدينية
كقول لبيد:
أَلا كلَّ شئٍ ما خلا الله باطل وكلَّ نَعيم لا مَحالةَ زائل
وقد أشاد النبي (صلى ألله عليه وآله) في قوله ذاك كما أشاد بأبيات عبد الله بن رواحة:
وَفينا رَسولُ الله يتلو كِتابهُ إِذَا انشقَّ معروفٌ من الصبح ساطعُ
أَرَانا الهُدى بَعد العَمى فقُلوبنا بهِ موقــناتٌ أنَّ ما قالَ واقـع
يجافي جَنبه عن فِراشهِ إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
رثاء الأكرمين ذوي البذل
وفي الرثاء برزت عدد من القصائد في عصر صدر الاسلام كقصيدة كعب بن ثابت يرثي حمزة بن عبد المطلب يوم أحد والتي من أبياتها قوله:
كذلك حتى دعاهم مليك إلى جنة دوحة المولج
وكلهم مات حر البلاء على ملة الله لم يحرج
كحمزة لما وفى صادقا بذي هبة صارم سلجج
وكانت قصائدهم ذات وقع وتأثير كبير كما وصفها عليه الصلاة والسلام في هجاء شعراء الإسلام لمشركي قريش قائلا: (فو الذي نفسي بيده لكأنما ينضحون بالنبل) فكانوا مصدر الهام لمن خلفهم من شعراء الإسلام الذين تأثروا بهم كثيرا وظهر ذلك جليا في اشعارهم.
نشرت في الولاية العدد 135