الإصلاح المالي والاقتصادي عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عرض مقارن


م.م. سلام عادل عباس النصراوي

تعد ولادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب بعد ثلاثين سنة من عام الفيل في بيت الله الحرام بداية شروع تختلف عن الآخرين من جوانب المكان والطريقة والطهارة.
فبَعد أن أحسَّت أمه السيدة الفاضلة فاطمة بنت أسد (رضوان الله عليها) بآلام الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل اتجهت الى الله تعالى بالدعاء والتضرع عند البيت الحرام وإذا بجدار الكعبة ينشقّ إيذاناً بدخولها لوضع وليدها المبارك على الرغم من وجود الباب إلاّ أنها لم تفتح ليكون الحدث أكثر وقعاً وأبلغ دلالةً. وأذّن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً و قال هلمّوا إلى وليمة إبني علي ونحر ثلاثمائة من الإبل و ألف رأس من البقر و الغنم , و قال معاشر الناس ألا من أراد من طعام علي ولدي فهلموا و طوفوا بالبيت سبعاً سبعاً, و أدخلوا و سلموا على ولدي فان الله شرَّفه.

ومن مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) قال لعمه أبي طالب إني أحب أن تدفع لي بعض ولدك, يعينني على أمري و يكفيني، و أشكر لك بلاءك عندي، فقال أبو طالب : خذ أُّيّهُم شئت، فأخذ علياً فاستقت عروقه من نبع النبوة ورضعت شجرته من ثدي الرسالة و تهدلت أغصانه من نبع الإمامة و نشأ في دار الوحي و لم يفارق النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته الى حال وفاته.
وممّا تقدم الحديث فيه أنّ امير المؤمنين (عليه السلام) قد نشأ في بيئة ناصعة نقية، بالغة الأثر في بناء شخصيته وسلوكه الفذ سواء في أسرته أم مجتمعه وهذا تلمسه واضحاً في أثره المنقول الذي تناول مختلف المجالات الإنسانية.
ونحاول في هذه المقالة التعرّض إلى بعض ملامح رؤيته في إصلاح الجوانب الإقتصادية و المالية خلال تسنّمه قيادة الأمة بعد مقتل عثمان بن عفان عام 35هـ لما ورثه من تراجع في مختلف الجوانب من أجل تحسين أوضاعهم المعاشية وتطوير واقعهم الاقتصادي، وهذا لمسناه واضحاً في أثره من خطبه ومراسلاته لعُمّاله في البلدان الإسلامية خلال تأسيس دولته العادلة القائمة على المساواة دون تمييز عائلته و ذويه عن عامة المسلمين و لا فضل لعربي على غيره، وقد طلب منه بعض أصحابه العدول عن هذه السياسة فيأتي رد علي (عليه السلام) سريعاً «لو كان المال لي لَسوّيتُ بينهم فكيف، وإنّما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويُكرّمه في الناس، ويهينه عند الله «فكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يؤسّس إلى تشريع واضح يهدف إلى خلق بيئة إقتصادية ومجتمعية مستقرّة لا تحكمها الطبقية والرأسمالية ولا يُفضَّل الرئيس على المرؤوس، فإعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف و يضع صاحبه تحت المساءلة الإلهية فكلامه ناطق عن تشريع السماء كما في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الاسراء-27) فعدالة التوزيع لدى علي (عليه السلام) ناصعة تمثل سلوك الإمامة والالتزام الحقيقي بخط النبوة والقرآن الكريم، وللأسف ها نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين نفتقر الى هذا الفكر في إدارة شؤون البلاد سواء في العراق أم البلدان الأخرى في سوء توزيع الثروة والتمييز بين الحاكم وحاشيته من جانب وعوام الناس من جانبٍ آخر من حيث الرواتب و الامتيازات ممّا أدى إلى ضياع الحقوق و تبديد الثروة و حصرها عند فئة ضيّقة.
لقد كان واضحاً لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) ما اكتنزه أصحاب وولاة الخليفة السابق عثمان من أموال و أراض فقال مقولته الشهيرة التي هزت مضاجع المنتفعين و الفاسدين «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من بيت مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، [وملك به الإماء] لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق» و بهذا الإعلان أوصل علي (عليه السلام) في بداية شروع حكومته أن تصرفات الحاكم إذا كانت مخالفة للشريعة فإنّها لا تحلِّل الحرام ولا تحرِّم الحلال و عطاء الحاكم السابق بغير وجه حق لا يُمنع من استرداده لخزانة الدولة و بذلك ينهي مشروع غسيل الأموال بإعطائها صفة الشرعية عبر تداولات معينة فالزمن لا يمنح الظلم شرعيته، وتعد هذه في الحقيقة المواجهة الاولى لِدَك حصون الفاسدين والمنتفعين من الولاة و أتباعهم بيد من حديد والتي سببت له العديد من المخاطر و الأزمات.
إنّ التردي الذي تعيشه الشعوب يعود الى الحاكم في الأغلب فعلي (عليه السلام) أشار الى مجموعة من الصفات التي من الضرورة توفرها في الحاكم فيقول (عليه السلام): «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيُذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيُهلك الأمة». لذا على الحاكم أن يتمتع بكرم النفس و العدالة والنزاهة و العلم و المعرفة بالدين.
كما أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: « وليكُن نظرك في عِمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً» وبهذا يؤكد (عليه السلام) على ضرورة استثمار واستصلاح الأراضي الزراعية وتطويرها كونها تمثل شرياناً مهماً في إنعاش البلدان واستقرارها السياسي التي بدورها تحقق فرص العمل وانتاج حاجاتها ذاتياً، وطبقاً للمفهوم الإقتصادي فإن الشعوب والبلدان المنتجة أو العاملة تعتلي قمة الرفاهية ويساهم ذلك في إيصالها إلى مرحلة السِلم الأهلي والأمن الاجتماعي وفضلاً عن رفع المستوى المعاشي للفرد وهي تقضي على آفة البطالة و يساهم ذلك في تثبيت وتكريس العزة والكرامة والسيادة.
و في الختام كانت نظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أبعادها المالية والإقتصادية تدور حول الإنسان و السموّ به إلى المراتب العليا كما أراد الله سبحانه وتعالى له وبالتالى فإنّ تنمية الأموال والرفاه الإقتصادي يكون تحصيلاً لذلك التكريم.

نشرت في الولاية العدد 134

مقالات ذات صله