م. م. حيدر محمد علي المخزومي
في موضوع (الأسماء الموصولة) في اللغة العربية ترد كلمتان هما (مَنْ) و(ما)، ومعناهما يكاد يكون واحداً إلا في النمط الذي يُستعمل فيه كل منهما من حيث العقل وعدمه، فـ(مَنْ) أكثرما تستعمل للعاقل، وقد ترد لغير العاقل، و(ما) أكثرما تستعمل لغير العاقل، وقد ترد للعاقل، هذا ما ذكره العلماء بشأن هاتين الكلمتين، وليس لي إشكال او تعليق عليه، ولكن ما أودُّ أن أقوله في هذا الصدد يتعلق بالاستشهاد الذي استشهدوا به على إتيان (مَنْ) لغير العاقل، و(ما) للعاقل.
أنسنة مدلول «مَنْ» في القرآن الكريم
إذ ذكروا ان للمسألة الأولى قوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء)(النور/45)، ولعلَّ من الممكن ان نعد استشهادهم هذا مقتضبا، فهذا النص جزء من قوله تعالى في الآية الكريمة: (والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءإِنَّ الله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(النور/45).
فنحن إذا نظرنا الى هذا النص الكريم وجدنا (منْ) تدل على غير العاقل في أكثر من موضع، وأول ذلك في قوله تعال: (فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) والحقيقة ان النكتة ليست في استعمال هذا الاسم الموصول لهذا المعنى، وإنما في استعمال ضمير جماعة العقلاء الذكور (هم) لهذه المعاني، فإن الأولى بالدارسين ان يشيروا الى سر استعمال المولى جل شأنه هذا النوع من الضمائر لهذا النوع من المعاني، هذا هو الأمر الذي كان عليهم ان يفعلوه، وليس ببعيد ان يكون السرّ وراء ذلك ان الله يعد كل جنس من هذه الأجناس التي ذكرها في الآية الكريمة امة قائمة بنفسها على وفق قوله في موضع آخر: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِإِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَافِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَى رَبِّهِم يُحْشَرُونَ)(الأنعام/38).
وفي هذا الموضع ايضا استعمال المولى لضمير العقلاء في مكانين: (ربهم) والواو في (يحشرون).. من هذا نعلم ان الله سبحانه وتعالى يؤكد ان هذه المخلوقات الحيوانية التي يسخر منها الإنسان ويهزأ بها وينالها ظلمه وبطشه انما هي طوائف او كائنات تمتلك من الوعي او القدرة على التدبير ما يجعلها تستحق ان يُعبر عنها بأدوات العقلاء، وان يكون لها كيان خاص وحيثية خاصة كما نحن – بني الإنسان – لنا حيثية خاصة.
فإذا كان لهذا الرأي نصيب من الصحة بطل ما قال به العلماء من استعمال (مَنْ) لغير العقلاء في الآية الكريمة، وتبين ايضا ان الأمر في هذه الآية لا يتعلق بـ(من) على وجه الخصوص، وإنما يتعلق بالسياق العام للآية، وان (من) لم ترد فيه إلا بالتبعية لاستعمال سابق لها في النص هو ضمير جماعة العقلاء الذكور (هم).
مدلول «مَنْ» في الشعر
وفي هذا الموضوع نفسه في استعمال (مَنْ) لغير العاقل – كما يزعمون – ذكروا البيتين الآتيين:
بكيت على سِرْبِ القَطا اذ مَرَرْنَ بي فقُلت ومثلي بالبكاءِ جديرُ
أسربَ القطا هلْ منْ يُعيرُ جناحهُ لعلي الى من قد هويتُ أطيرُ
(شرح ابن عقيل على الفية ابن مالك: 1/141)
وهذا الموضع يمكن ان يقال فيه مثل ما قيل في الموضع السابق، وهو ان الشاعر لمَا أراد ان يناجي سرب القطا لم يبق في ذهنه انها من العجماوات، وإنما اسبغ عليها ثوب الإنسانية والوعي ليستطيع من خلال ذلك ان يبثها شيئا من وجده ولواعج شوقه، والأمر لم يتوقف على (منْ) وحدها، بل هناك قبلها نون النسوة في (مررْنَ) فإن اسباغ صفة العقل على هذا السرب امر واضح يدعو الى العجب من عدم التفات العلماء اليه حتى راحوا يعُدون الشاعر قد استعمل (منْ) لغير العاقل في هذا الموضع.
الخلاف في «ما» غير مطلق
وبخلاف ما تقدم ذهبوا الى ان (ما) قد تستعمل للعاقل، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: (فَانكِحُواْ مَاطَابَ لَكُم مِّن َالنِّسَاء مَثْنَى)(النساء/3)(ظ: شرح ابن عقيل: 1/140)، والحقيقة أن هذا الأمر لا يمكن ان يتضح بشكل جليّ إلا بعد إيراد الآية كاملة من أجل التأمل في دلالة هذا الاستعمال لاختبار صحة ما ذهب اليه العلماء المتقدمون بهذا الشأن، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ َتُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَاب َلَكُم مِّن َالنِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ َتَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة أَوْمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (النساء/3).
إننا اذ تأملنا في هذه الآية الكريمة لا يمكننا ان نجاري العلماء فيما ذكروه من دلالة (ما) على العاقل في الوقت الذي هي موضوعة فيه لغير العاقل، هذا الكلام لا يمكن ان يؤخذ على اطلاقه فإن لـ(ما) في هذا المورد شأنا آخر غير الدلالة على العقلاء أو غيرهم، إنها جاءت هنا للدلالة على الإطلاق والعموم، وقد وردت في موضع اخر من الآية الكريمة هو قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فأنا لا أفهم من هذا الا اطلاق الأمر بالنسبة الى الرجل في موضوع الاختيار، وهذا الموضع لا تصلح له (من) لأنها تشم منها رائحة التخصيص.
ولعل هذا شبيه بقول ملك لأحد قواده: (خذ ما شئت من الجنود واذهبْ الى الثغر الفلاني او الثكنة الفلانية)، فإن (ما) هنا يراد بها الإطلاق، أما لو قال: (خذ من شئت) ففي هذا شيء من التخصيص فيكون المعنى (خذ من شئت زيدا او خالدا او عامرا) ونحو ذلك، أما (ما) فهي خالصة من هذه المعاني، وإنما هي متجردة للإطلاق.
نشرت في الولاية العدد 84