صحافة نجفية: الحضارة والثقافة في عهد الحكومة المغولية في العراق

الصحافة-النجفية

بقلم الأستاذ المحقق عباس بك العزاوي المحامي

ظهرت بواكير الصحافة في النجف الأشرف منذ سنة 1910م، وبالرغم من قلة الموارد وحداثة التجربة آنذاك، إلا أنّها حققت قفزات نوعية نافست التجارب الصحفية على المستوى الإقليمي، إذ واكبت الأحداث العالمية أدباً وسياسةً وثقافةً، وبلورت الهموم والآمال التي يحملها المفكرون تجاه الأمّة.
وفي هذا الباب تقدّم لكم (الولاية) سلسلة مختارة من المقالات المنشورة في مجلات النجف القديمة إحياءً لهذا الإرث الإعلاميّ الخالد، ووقوفاً على معالم من تفوّقه الذي عجز كثيرون في هذا الزمان عن مجاراته.

ان القطر العراقي بعد ان فقد استقلاله، وزال عنه الطابع الاسلامي ولو صورة، وبعد ان صار نهبا بيد الفاتحين لم يبق بيده ما يعول عليه، او يركن الى قوته سوى الاوقاف الاسلامية، وهذه كانت في عهدها العباسي مكينة، وتسابق الاهلون ورجال الدولة الى اعمال البر لتقوية الثقافة، وتنمية الصلاح بمقاييس واسعة جدا..
ولما لم يتعرض الفاتح بالمؤسسات الدينية ايام احتلاله كان من نتائج ذلك الاحتفاظ بالمعارف والعلوم ومن اوضح ظواهرها المدارس الكبرى مثل المستنصرية والنظامية والبشيرية.. والرباطات ومشيخاتها.. فصارت خير واسطة للم الشعث واستبقاء الحضارة.. مما دعا ان ينبغ كثيرون داعت شهرتم وطبقت الافاق.
ترجمنا مختصرا بعض المشاهير الا ان الموضوع ليس محل بيان مناهجهم العلمية وما احدثوه من اثار.. وبين هؤلاء المتكلمون والحقوقيون اتي الفقهاء الذين لا تزال كتبهم المعول عليها، والاطباء، واللغويون والمؤرخون، والخطاطون والموسيقيون، والشعراء والادباء والمجان.. وهكذا يقال عن الزهاد والصوفية والمتصوفة وقد اشتهر منهم كثيرون..
والمدارس كانت ادارتها مودعة الى رجالات العراق وغالب ايامها الى قاضي القضاة او الى صدر الوقوف ينظر فيها وفي المعاهد الخيرية والدينية.. ولم يستول على اوقافها غيرهم فيتولى ادارتها وتعهد اليه صدارة الوقوف الا مدة يسيرة.. وفي هذا ايضا لم يهمل شأنها ولا اودعت الى من هو غريب عن الاسلامية او اجنبي عنها.. فكانت خدماتها كبرى، وفوائدها عظمى سواء في الحضارة او في الثقافة العامة او الخاصة والسياسة لم تعرضها.. ولم يؤثر في سيرها ضياع الكتب وبعض المكتبات، او الذهاب بها الى مراغة وانتزاعها من العراق فلا تزال بقية باقية تغذي العقول وتحبب العلوم وتمكنها في البلد دون حاجة الى مناصرة من حكومة والحكومة انئذ اجنبية فلم تؤثر على عقائدها ولا ثقافتها، ولا تعير مركز الحكومة من بغداد الى ايران.. كل ذلك لم يضرها الضرر الكبير ولا قلل من روحيتها..
ثم ان التجاء الهاربين من علماء العراق ايام الواقعة وبعدها قد ولد انتباها في الاقطار الاسلامية الكبرى مثل سورية ومصر.. هاجروا هربا من المغول فأوجدوا نهضة علمية، واشتهر فيها جماعة من علماء العراق فأثروا في الثقافة ونالوا منزلة لا يستهان بها.. ولم يفقد العراق مزاياه بذهابهم وانما تمكن في مدة يسيرة من استعادة مجده العلمي والثقافي..
والعراق لم يقف عند مؤسساته القديمة او بقاياها وانما اسس معاهد جديدة مثل المدرسة العصمتية الا انها قليل ولا تقاس بها بقي الى ما بعد الاحتلال من المؤسسات العباسية وبقاؤها كان نعمة فهي خير معهد تربية علمية وادبية وفنية.. والحكومة آنئذ لم تتعرض للمؤسسات امثال هذه ولكنها بعد ان سلمت ناصرتها ايدت مركزها.
نعم كان اكبر عمل هدام لهذه المؤسسات والتقليل من شانها ان الفاتحين بسبب انهم لم يكونوا مسلمين راعوا ما يوافق رغبتهم من العلوم والثقافات كالعلوم الفلكية والرياضية والطب.. ومن الفنون الموسيقى وامثال ذلك كالرسم او ما يتعلق بالمعاملات اليومية فكان هو المعتبر عندهم. اما سائر العلوم فإنها قامت بمؤسساتها وهناك عامل اخر لا يقل عن سابقه وهو تمركز الادارة في ايران وانقياد العراق لها..
وهذا العهد على ما فيه من زوابع وغوائل كان خير العهود التي وليته واشتهر فيه من النوابغ في العلوم والفنون والصناعات المختلفة بحيث صار اساس وقدوة.. وقد اشرنا الى امثلة كثيرة على ذلك وساء في العلوم او في اثار الريازة في بناء السلطانية واستخدام عراقيين كثيرين للهندسة والعمارة.. وهكذا يقال عن الخطوط فقد ظهرت في خط ياقوت واضرابه ممن مرت تراجمهم وصارت ساسا يتحداه سائر اهل الاقطار الاخرى، وعن الصناعات مما ظهر في الهدايا والتقادم المرسلة الى ملوك مصر.. والحاصل لا يسع المقام التبسط في امثال هذه فنكتفي بإشارة ونجتزئ بما مر من المباحث.

نشرت في الولاية العدد 87

مقالات ذات صله