د. مقدام عبد الحسن الفياض
ذكرنا في العدد السابق بعض المجريات التي شهدتها الحياة السياسية في شبه الجزيرة العربية خلال السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 بعد التدهور الذي اصاب الدولة العثمانية وانهيارها فيما بعد، وظهور بعض الانظمة الحاكمة الجديدة في المناطق التي كانت تحت سيادتها، المتناحرة في منطلقاتها الفكرية والانتماءات المتخاصمة تاريخيـا (آل سعود في نجد، آل الرشيد في حائل، بني خالد في الاحساء، الاشراف في الحجاز) في صورة نزاعات مستمرة من اجل الحكم والسيطرة وفرض النفوذ.
ازداد القلق الشعبي في النجف تأججاً وتعقداً، حين ظنّ الكثيرون ان هذه الغارات ما هي الا مقدمة لهجوم «وهابي» عام على العراق مثلما حدث ذلك قبل قرن ونيف. وعبّر السيد محسن الامين العاملي (ره) أحد الشخصيات الدينية المعاصرة في النجف الأشرف عن ذلك القلق بالقول: «اشتكى العراقيون الى الحكومة الانكليزية وقالوا لها إما ان ترد عنهم او تترك العراقيين وإياهم ليدافعوا عن انفسهم. وما زال فيصل الدويش يشن الغارات على الاعراب المجاورة لنجد فينهب مواشيهم ويقتل فيهم، وقد قرأنا اليوم في الجرائد خبر هجومه عليهم وقتله فيهم « ونحاول تتبع الاحداث لتعيين القوى الفعلية المحركة لرد الفعل العراقي، والتي عملت بوضوح في الحملة السياسية ضد البريطانيين، ثم توّجت عملها ذاك بمؤتمر كربلاء عام 1922.
وكانت الجماعة الاهم والابرز في هذا الحراك الوطني هم (علماء الدين) يؤيدهم عدد من الوطنيين الشباب الملتزمين الذين نظروا الى المؤتمر بوصفه تظاهرة سياسية تتحدى البريطانيين وتمهد الطريق نحو تقويض وجودهم في العراق مستقبلاً، ومن المؤكد جداً انه كانت لديهم دوافع ذاتية تعمل في الوقت نفسه، فقد أراد العلماء تدعيم نفوذهم واظهار مدى تأثيرهم في الرأي العام العراقي فضلاً عن ان خلافهم العقائدي مع الدعوة السلفية التي يعتنقها النجديون ويسعون الى نشرها في البلدان المجاورة كان جوهرياً، لكن هذا لا يمنع من التذكير ان كبار علماء المسلمين السُنة كالشيخ عبد الله النعمة ومسؤولي اوقاف بغداد أصدروا فتاوى كثيرة تستنكر اعتداءات «الوهابيين» على ارض وطنهم العراق وتدعو الى الذود عنه وعن مقدساته.
تحرك علماء الدين في النجف الأشرف اولاً، من اجل التهيئة للمؤتمر والاعداد له، عندما بعث قطبا المرجعية الدينية العليا: السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني، برسالة الى احد كبار العلماء المجتهدين في الكاظمية هو الشيخ مهدي الخالصي، يدعوانه فيها الى عدم الثقة بما وعدت به بريطانيا من… بل يجب أخذ المسألة على عاتقهم بالعمل على عقد مؤتمر عراقي في كربلاء، تدعى اليه -عن طريق الخالصي- النخبة من وجهاء المجتمع وشيوخ العشائر العراقية كافة للحضور اليها قبل مناسبة زيارتها بأيام قلائل.
وللحديث تتمة مع مجريات هذه الأحداث التاريخية في عدد لاحق.
نشرت في الولاية العدد 90