أبو محمد باقر
كان يعلم أن الوقت الذي اتصل بي فيه هاتفياً هو وقت راحتي، إذ تجاوزت الساعة حينها العاشرة مساءً، ولهذا فقد فوجئت باتصاله في تلك الساعة، كما فوجئت بلهجته المرتبكة في الحديث وهو يقول: شيخي الجليل أنا محتاج إلى لقائك الآن ولو لعشر دقائق، واضطررت لأن أجيبه بعدم الممانعة بالرغم من حاجتي حينها إلى النوم.
وبعد دقائق وصل بسيارته ليدخل عليّ في غرفة الاستقبال بعد أن فتح له أحد الأولاد الباب.. سلم وجلس في مكان اختاره هو قبل أن ينتظر مني إذناً بالجلوس، ثم بعد استراحة قصيرة بادرني قائلاً: شيخي جئت إليك لتساعدني في تطليقها.
لا أبالغ حينما أقول: إنني فوجئت بطلبه الغريب هذا في مثل هذه الساعة من الليل فسألته: من تعني؟
فقال: إنها زوجتي رباب أم سفانة، إنني لا استطيع العيش معها بعد هذا اليوم أبدا، لقد جعلت حياتنا جحيماً لا يطاق، كل يوم تعلو أصواتنا بسببها أمام القريب والبعيد، واضطرتني هذه الليلة الى أن أطردها إلى بيت أهلها، أوصلتها الآن إليهم قبل أن آتي إليك، شيخي اوجد لحياتي معها حلاً، ساعدني في قطع صلتي بها.. الآن وليس غدا..
واستغربت أنا من نفسي حينما ابتدرتني ضحكة عميقة لم أستطع كتمانها لما رأيته من حالته التي كان فيها، بينما دهش هو لما رآه مني، فقالَ – والانزعاج باد عليه بالرغم من احترامه لي- فقال: وما المضحك في الموضوع يا شيخي العزيز؟
فأجبته ببرود: المضحك هو النكات الحارة التي أسمعها منك الآن، ثم عقبت سائلاً إياه – وكأن الموضوع مفروغ منه- : ألا تستحق هذه النكات الحارة منك مثل هذا الضحك الحار؟
ويبدو أنني بدأت بسؤالي هذا أمتص الكثير من سورة غضبه، إذ بدا وكأنه يدافع ابتسامة في داخله وهو يقول: لا.. لا يا شيخي الجليل؛ أنا جاد في كل ما أقول.. إني أريد طلاقها.. لا أستطيع العيش معها.. حياتنا أصبحت…
فبادرته مقاطعاً: ولكن أنت تريد ذلك .. فما الذي يعينني أنا؟
فقال: إن هذا لا يكون إلا بمساعدتك أنت؟
قلت: أليس من حقي أن أسأل عن السبب الحقيقي الذي دعاك إلى اتخاذ ما تريده من هذا الطلاق؟
فقال: ألست شيخ البلد؟ .. ألست المرجع الذي يعوّل عليه الناس في مثل هذه المهمات؟
فقلت مبتسماً: «لِنفترض أن ما تقوله صحيح، ولكن هل هذا يعني أنني اتخذ موقفاً معيناً قبل أن أعرف الأسباب الحقيقية التي تدعو إليه، ولاسيما في موضوع حساس ومصيري كالذي تطرحه الآن، حيث تريد هدم حياة أسرة من الأسر العزيزة عليّ؟ إنني –باختصار- لست مستعداً لإجابتك ما لم تقنعني بالأسباب التي دعتك إلى اتخاذ هذا القرار: – ثم بعد سكتة قصيرة وابتسامة وأنا أؤكد على حروف الكلمة- : «السخيف» .
ولم يبد أنه التفت إلى هذا التعليق الأخير إذ قال: «شيخي الجليل، إنني صبرت عليها منذ خمسة أعوام وحتى الآن.. كانت جيدة معي للغاية منذ زواجنا حتى ولادة سفانة ابنتنا الأولى .. كان بيتنا جنة من الجنان، نظيفاً مرتباً لم احتج معها إلى تنبيه.. حتى كوي ملابسي، كانت تهيئ لي ما تعلم أنني أرغب فيه.. طعامي شرابي.. حاجاتي الأخرى.. كل أسباب سعادتي .. ولكن ما إن ولدت سفانة حتى اختلف كل شيء معي.. سفانة بكت.. سفانة جاعت.. سفانة تريد النوم.. سفانة ارتفعت حرارتها.. سفانة تحتاج إلى تنظيف.. وبالكاد تذكر شيئاً من أمري، وما إن ولد ابننا زيد حتى ازداد الأمر سوء، أما بعد أن جاءت جمانة فقد أصبحت نكرة من النكرات، أنا أصنع الطعام لنفسي، وقد أضطر إلى غسل ملابسي .. لا اهتمام بي، لا ضحكة لي.. لا.. لا…
فسحت له المجال ليلقي كل ما في جعبته من نفثات صدره المكبوت.. أعرف أنها سورة لا بد له من تصريفها ليرتاح وإن كانت هي للمبالغات أقرب منه إلى الحقيقة، لما يعتري الإنسان عادة في مثل هذه الحالات من رغبة في الإفاضة بسلبيات الطرف الآخر، ومحاولات الانتصار للذات أمام الآخرين، وبعد أن شعرت أنه استنفد معظم ما يريد قوله، قلت له ببرود: لكنك لم تقل لي بم كانت رباب زوجتك مشغولة عنكَ وأهملتك -كما تقول- ؟
لم يبد أنه التفت الى ما أعنيه بهذا السؤال، بل بدا أنه ارتاح له، لشعوره أنني اتابع ما يقول، او لاعتقاده أنني أتعاطف معه فيما طرحه.. ولهذا بادرني بالقول: طبعاً بأولادها..تنظيفهم.. نومهم .. غسيلهم.. و.. و.
فسألته بعمق – وأنا أركز على كل كلمة أقولها-: أولادها هي، وليسوا أولادك أنت؟
وبدت عليه أنه بهت لمفاجأتي إياه بسؤال لم يكن يتوقعه، ولم يجب بكلمة، بل تمتم بكلمات لم أسمعها على التفصيل.
فبادرته مؤكداً: أليسوا هم أولادك أنت قبل أن يكونوا أولادها هي، أو ليسوا هم مسؤوليتك قبل أن يكونوا مسؤوليتها، أو ليست باشتغالها بشؤونهم إنما هي مشغولة بشؤونك أنت؟
استغللت سكوته لأتابع: أولا تعلم –يا عزيزي- أن من حقها شرعاً أن تترك خدمتهم لك أنت، لتتولى أنت غسلهم وتنظيفهم والقيام بكل شؤونهم؟
أو ليس من حقها أن تلزمك ثمن خدمتها لهم، بل وتلزمك ثمن رضاعها إياهم إن شاءت ذلك، أليس من حقها أن تترك خدمة بيتك وتنظيفه وترتيبه عليك أنت، فضلاً عن غسلها لملابسك وخدمتك الشخصية غير ما ألزمها الله به شرعاً؟
ليكن لديك معلوماً -ايها الرجل المحترم- أن باستطاعة زوجتك شرعاً أن تأخذ منك حتى أجرة طبخها لطعامها منك، لا أن تطبخ لك أنت طعامك مجاناً، إلا حيث تتفضل هي عليك بذلك .
عليك أن تعلم أن كل الذي قلته لي لا يدل على أكثر من كونك إنساناً أناني النزعة، متجرد عن كل المسؤوليات التي حملك الله إياها تجاه أولادك وبيتك، فضلاً عن مسؤولياتك تجاهها هي .
وسكت قليلاً وأنا اتابع بخفاء ردة فعله على كلماتي معه، فلاحظته مطئطئاً برأسه إلى الأرض ينظر إليها بعمق، وكأنه يستعظم كل ما قلته، ولما لم يعقب بكلمة واصلت قائلاً : نعم، إن زوجتك تقصر بحقك حينما تلقي عليك كل متعلقاتك التي يجب عليها شرعاً القيام بها، لتعتني بنفسها وبمصالحها الخاصة التي لا تدخل بشيء من واجباتها تجاهك.. لأن عنايتها بنفسها التي تدخل ضمن هذه الواجبات هي جزء من القيام بشؤونك أيضاً .. أما حيث تفني هي وقتها وشبابها ونضارتها من أجلك ، ومن أجل خدمة أبنائك ، ومن أجل العناية ببيتك ، وأن -مع كل ذلك- ترميها بالتقصير في حقك، فهذا هو الظلم غير المغتفر وهو الحيف عليها وعلى حق الله تعالى فيها.
كنت مسترسلاً بهذا الحديث حينما التفت إليه، وفوجئت أن أرى التماعة على خديه لدمعتين ابتدرتا من عينيه قبل أن أسمعه يهمهم بكلمات لم أتبين ما يعنيه فيها، حينها لمست أنه بدأ يشعر بالضعف، وعلمت أن الفرصة مواتية لأن أستغل حالته في تسوية الأمور بالشكل الذي أريد، فابتدرته قائلاً بحزم: هيا لتذهب الآن إلى رباب واعتذر إليها وإلى أولادها عن كل ما بدر منك تجاههم في هذا الليل البهيم..
ويبدو أنه فوجئ بهذا الطلب، إذ قال متسائلاً وبلهجة احتجاج: وهل الأمور بهذه البساطة لديك يا شيخي الجليل .
فقلت: ولم لا؟ أنا على استعداد لتسوية الأمور معك إذا أعطيتني عهداً أن تخرج من أنانيتك إلى مسؤولياتك كرجل مؤمن.. ولم أنتظر منه جواباً، بل تناولت الهاتف لأتصل بزوجته، وسمعتها تستقبلني بنشيج بكاء مكتوم قبل أن تسألني: من؟
فاخبرتها باسمي وقلت لها: أنا وأبو سفانة قادمان لأخذك وأولادك إلى البيت، فكوني على استعداد للذهاب معنا، وقطعت الاتصال قبل أن أسمع منها كلمة تعليق.
وبعد دقائق كنا أمام بيت أهلها.. كان أخوها حامد ذو العشرين ربيعاً بانتظارنا.. لم أرغب بالنزول من السيارة في البداية لضيق الوقت، بل طلبت منه أن تأتي أم سفانة مع أبنائها إلينا، إلا أنه قال: شيخنا، إن أبي بانتظاركم في صالة الاستقبال.
نزلت لأسلم عليه وأعتذر إليه لزيارتهم في هذا الوقت المتأخر من الليل.
كان الرجل عاقلاً كيّساً، ابتسم بمجرد رآني وهو يعتذر لي عن إزعاج (الأولاد) لي في هذا الوقت المتأخر من الليل، وأخبرته أن يطمئن إلى أنني سأسوي الأمور بأفضل مما كانت عليه -إن شاء الله- وودعته دون أن أجلس، ولما خرجت إلى السيارة وجدت أم سفانة والأطفال راكبين فيها مع أبي سفانة.
وهناك في بيتهم كانت الجلسة في البداية تشنجاً مكبوتاً، فعتاباً، فمرحا هادئاً، قبل أن يتطور إلى تعليقات وضحكات سرور متعالية منهما، معي في البداية ثم فيما بينهما، وخرجت عنهما ليستمر صدى ضحكاتهما يملأ أذني وأنا عائد إلى البيت، والساعة قد تجاوز الثانية بعد منتصف الليل.
نشرت في مجلة الولاية العدد75