لا يخفى على دارس الإسلام حقيقة أن هذا الدين الحنيف يعتمد في حركته على تطبيق الحق، بعيدا عن كل اعتبارات تقدسها وتحترمها طوائف عديدة من الناس في تقاليدهم واعرافهم.
لذلك نجد أن مدرسة اهل البيت(عليهم السلام) كانت ولا تزال قائمة على فكرة: ان يكون على رأس السلطة في الأمة الإسلامية إنسانا معصوما معينا من قبل الله تعالى، لبسط العدل وفرض الحق ولو كره الناس الحق لثقله، قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : (إِنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيءٌ وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيءٌ)( نهج البلاغة 4: 90) وهذه الفكرة ــ شرط العصمة في الحاكم الإسلامي ــ تساوي حكم العقل والتجربة معا.
فحتى لو كان اختيار رأس النظام مبنيا على المشورة ــ التي تقارب عادة من اسلوب الانتخاب الديمقراطي المعاصر ــ فان اختيار أهل الشورى أنفسهم لا بد من أن يكون وفق تشخيص دقيق لقابلياتهم على اختيار الأصلح للحفاظ على المجتمع قويما وفق المعايير الإسلامية الصحيحة، وهذا التشخيص لا يكون إلا من قبل شخص أو أشخاص أعلى من اهل الشورى رتبة في الفهم، وهكذا… ومثل هذا الأمر يؤدي إلى التسلسل اللانهائي الباطل كما هو واضح.
وحتى في مضمار عمل الحاكم تحت رقابة مجلس شورى، فان الآراء التي تتمخض عن قرارات المتشاورين تحتاج إلى من يضبطها على المنهج الأصلح بعيدا عن كل منافع شخصية، وهذا شرط لا توفره إلا العصمة.
ولو اسند تعيين رأس الهرم في حكم الامة الاسلامية الى مشاورة المسلمين جميعا- اذا امكن تحقيقها فعلا- فان ذلك لا يفي بالحفاظ على متبنيات الشريعة الاسلامية التي يراد لها ان تتحقق في المجتمع الاسلامي، لان غالبية الناس لا يحبون امر الحق والعدل، قال تعالى: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (المؤمنون/70)، وبذلك يستحيل أن تكون نتيجة مشورة عامة الناس متّسقة مع تطبيق مفردة الحق، وبالتالي لا يتحقق امر انتخاب الحاكم الاصلح في كثير من الاحيان.
ومما تقدم نجد ان نظام الشورى لتعيين راس الحكم الذي ادعته طائفة واسعة من المسلمين ليس له قيمة عملية في المنظور الاسلامي.
وكم من الكلمات لامير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة تفصح عن شجبه لاحقية خلافة الخلفاء بناء على منهج الشورى، من ذلك خطبته الشقشقية الصريحة في المطلب، وقوله في كتاب أرسله الى معاوية: (وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ، «وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا». وَقُلْتَ: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ وَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَلَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ وَهَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا وَلَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا…)( نهج البلاغة 3: 33).
فانظر الى إشارته الصريحة(عليه السلام) إلى انه إنما أُجبر على المبايعة مكرها لانه لم يكن يقبل بمثل هذه الخلافة ولم يعترف بمشروعيتها، وفي هذا الكتاب جواب على من يدعي ان الامام علي(عليه السلام) كان قد بايع الخليفتين عن قناعة.
كما ان هذه الكلمات الرائعة تقرر صراحة المنهج الذي اتبعه أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في رفضهم السلمي للانحراف عند ضرورة تقديم الأهم على المهم.
فان قيل: ان أمير المؤمنين(عليه السلام) كان قد احتج على معاوية في قضية الشورى والإجماع على خلافته، وذلك في رسالته المروية في نهج البلاغة إذ قال: (إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى)(نهج البلاغة 3: 7) فكيف يحتج الإمام على معاوية بأمر الشورى والإجماع؟
والجواب عن ذلك: ان المتأمل في كلماته(عليه السلام) هذه ــ إن صحت نسبتها اليه ــ يعرف بما لا يقبل الشك انه يلزم معاوية بما ألزم به نفسه؛ من الإيمان بان الخلافة لا تكون إلا بالشورى والإجماع، ومحاججة المرء لخصومه بمنهجهم الفكري لا يقتضي بالضرورة إيمانه بهذا المنهج.
نشرت في الولاية العدد 105