مظاهر من التنسيق الصوتي لطائفة من ألفاظ الجمع والتفريق

nakd

د.خميس عبد الله التميمي

النَّسقُ لغة: من نسق الكلام نسْقا: عطف بعضه على بعض والنَسَق من كلِّ شيء: ما كان على طريقة ونظام واحد، في الاشياء كلها يقال : قام القوم نسقا، وغرست النخل نسقا، وكل شيء أُتبع بعضه بعضا فهو نسق له، والتنسيق : التنظيم، يقال : نسقه نسقا ونسّقه تنسيقا ، اي نظمه على السواء(1) .
والتنسيق والتناسق من المظاهر التي عني بها الأسلوب القرآني وأولاها اهتماما كبيرا، تعددت أشكاله وتنوعت صوره ، ولا سيما الجانب الصوتي منه، ويمكن ملاحظة ذلك في طائفة من ألفاظ الجمع والتفريق في القران الكريم في ثلاثة امور ، يمكن توضيحها على النحو الآتي:

 

الفاصلة القرآنية:
المتتبع لمادة (فصل) في المعجمات العربية يجد انّها تدل على عدة معان تكاد تتفق في مدلولها العام، فقد جاء في معجم مقاييس اللغة: (الفاء، والصاد، واللام كلمة صحيحة تدل على تمييز الشيء من الشيء وابانته عنه، يقال: فصلت الشيء فصلا, والفصيل حائط دون سور المدينة)(2)، والفصل: بون مابين الشيئين، والفصل: القضاء بين الحق والباطل، وعقد مفصل: اي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة.
والفصل: واحد الفصول، والفاصلة التي في الحديث: (من انفق نفقة فاصلة فله من الاجر كذا)(3)، هي التي فصلت بين ايمانه وكفره, ومنها التفصيل: التبيين (4). وتطلق الفاصلة في اصطلاح القدماء(5) والمعاصرين (6) على اخر كلمة تختم بها الاية، كقافية الشعر وقرينة السجع, غير ان الاجماع منعقد على عدم تسمية الفاصلة قافية كما حكاه السيوطي اذ قال: (ولا يجوز تسميتها قوافي اجماعا؛ لان الله تعالى لما سلب عنه اسم الشعر وجب سلب القافية عنه ايضا؛ لانها منه وخاصّة في الاصطلاح, وكما يمتنع استعمال القافية فيه, يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر؛ لانها صفة لكتاب الله فلا تتعداه)(7).
وقد ادرك علماء العربية اثر الفواصل في تحسين الكلام، واطلقها الخليل وتلميذه سيبويه على مقاطع القرآن، ثم استقرت دلالتها على أواخر الآيات لدى أبي الحسن الأشعري(ت324هـ) وتلميذه ابي بكر الباقلاني(ت 403هـ)(8).
وللفاصلة أثر بالغ في التأليف الصوتي والمعنوي للقران الكريم فهي عماد نظمه وتمثل الركن البارز في تركيبه، ولها اثر بالغ في إتمام المعنى وتوضيح الصورة وتحقيق التناسق الصوتي والتاثير في المتلقي، اذ تحمل في تكوينها شحنتين في آن واحد، الاولى: وقع موسيقي يكون أهم عناصر الايقاع الصوتي في القران، والثانية: شحنة من المعنى المتمم للآية وبها تتجسد الدلالة ويفهم المقصود(9)، وهذا من إعجاز الذكر الحكيم، يقول الزركشي: (اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره, وايقاع الشيء فيها بما يشاكله وفواصل القران العظيم لا تخرج عن ذلك, ولكن منه ما يظهر ومنه ما يستخرج بالتأمل للبيب) (10).

أنواع الفواصل القرآنية:
وقد قسم أرباب الدراسات القرآنية الفواصل على انواع مختلفة، فمن حيث الطول تقسم على: قصيرة ومتوسطة وطويلة، ومن حيث التشكيل المقطعي تقسم على: متوازية ومتوازنة ومطرفة, ومن حيث حرف الرويّ تقسم على: متماثلة ومتقاربة، وقد وردت طائفة من انواع الجمع والتفريق فواصل آي, وكانت من حيث حرف الرويّ تبعا للفواصل السابقة واللاحقة على قسمين: متماثلة ومتقاربة.
1- المتماثلة: وهي التي تتماثل حروف رويها، أي: آخر أصواتها(11)، وقد سماها الرماني المتجانسة(12), ومن امثلتها قوله تعالى: (فمال الذين كفرو قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) (المعارج36-37) , اذ تماثلت الفاصلتان (مهطعين)و(عزين) في حرفيهما الاخيرين الياء والنون , و(عزين) من الفاظ التفريق, اي اقتسموا القران وجعلوه اعضاء في تفرقة (13)، من امثلتها ايضا ماورد في قوله تعالى: (فلا اقسم بالشفق والليل وما وسق) (الانشقاق 16-18). ومنه ايضا قوله تعالى: (كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القران عضين ) (الحجر:90-91)، اذ تماثلت الفاصلتان(المقتسمين) و(عضين) من الفاظ التفريق, اي اقتسموا القران وجعلوه اعضاء في تفرقة(14).
2- المتقاربة: وهي التي تتقارب اصوات رويها ولا تتماثل (15)، ومن امثلتها تقارب الشين والثاء في قوله تعالى: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش) (القارعة4-5) وهذان الصوتان رخوان مهموسان ومتقاربان في المخرج, اذ الثاء اسناني والشين حنكي(16). ومنه ايضا قوله تعالى: (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا ) (الواقعة :5-6) حيث تقاربت الفاصلتان (بَسّا) و(مُنبثّا) بتقارب حرفي رويهما (السين) و(الثاء) وهما صوتان رخوان مهموسان متجاوران, اذ الثاء اسناني, والسين لثوي(17).
وقد جعل القرآن الكريم لهذا (التغاير في وزن الفواصل ورويها من التماثل الى التقارب أثره النفسي, إذ هو ضرب من التنويع الموسيقي المشوق لسماع الكلام؛ لان الكلام اذا استمر على جرس واحد وإيقاع واحد لم يسلم من التكليف وإثارة الملل في النفوس. وذلك شيء معروف في الموسيقى, إذ يتغير الإيقاع في الدرجة والنوع بل ان من البلاغيين من ربط ذلك بفصاحة القران, فرأى أن الجرس الموسيقي من وجوه فصاحة القران ومظهر من مظاهره)(18). وقد عني التعبير القرآني في الفاصلة بالوزن أيضا؛ لأن مراعاة التماثل أو التقارب في أوزان الفواصل يكسب النظم قوة في التعبير, تتآزر مع المعاني والدلالات محدثة ذلك الانسياب في النغم الموسيقي للآيات المتتالية الذي يؤثر في نفوس السامعين(19). وتقسم الفواصل من حيث الوزن والتشكيل المقطعي على:
1- المتوازنة: وهي التي تتفق فيها الفواصل في الوزن والتشكيل المقطعي من ذلك قوله تعالى: (انا صببنا الماء صبا ثم شققنا الارض شقا)(عبس:25-26) فقد تطابق التشكيل المقطعي للفاصلتين (صبّا) و(شقّا) , فكلاهما ثنائية المقطع وعلى زنة (فعلا) واتفقا في حرفهما الأخير وهو الالف: (صبّا ص- ب/ب/ طويل مغلق /طويل مفتوح) و(شقا: ش- ق /ق/ طويل مغلق/طويل مفتوح).
ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: (ونمارق مصفوفة. وزرابيُّ مبثوثة) (الغاشية: 15 -16), اذ تتطابق الفاصلتان (مصفوفة)و(مبثوثة) في تشكيلهما المقطعي فكلتاهما رباعية المقطع وعلى زنة (مفعول): (مصفوفة: م / ص / ف/ ف /ت- ن/ طويل مغلق /طويل مفتوح /قصير مفتوح / طويل مغلق) و(مبثوثة: م- ب /ث- /ث/ ت- ن/ طويل مغلق/ طويل مفتوح / قصير مفتوح / طويل مغلق).
2- المطرفة : وهو أن تتفق الكلمات في حروف الروي لا في الوزن(20), ومن أمثلتها قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) الإنسان : 6-7, فكلتا الفاصلتين(تفجيرا) و(مستطيرا) من ألفاظ التفريق, وقد تماثلت حروف رويهما وهي (الياء والراء والألف), ولكنهما تختلفان في الوزن والتشكيل المقطعي, فالاولى على وزن (تفعيل) ثلاثية المقطع, والثانية على زنة (مستفعل) رباعية المقطع: (تفجيرا: ت- ف/ج/ر/ طويل مغلق/ طويل مفتوح /طويل مفتوح) و(مستطيرا : م / س/ت /ط/ر/ طويل مغلق /قصير مفتوح / طويل مفتوح/ طويل مفتوح).
3- المتوازية: وهي ان تتفق الكلمات في الوزن وحروف الروي(21) ومن أمثلتها قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فانبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد) (ق 9ــ 10): (حصيد: ح/ص/د/ قصير مفتوح / مزيد) و(نضيد: ن/ض/د/ قصير مفتوح /مزيد).
ومن امثلتها ايضا قوله تعالى: (في سدر مخضود وطلح منضود) (الواقعة 28 – 29) , اذ اتفقت الفاصلتان (مخضود) و(منضود) في الوزن وحرف الروي, فكلتاهما تنتهي بالمقطع المزيد, وباصوات الضاد والواو والدال: (مخضود: م-خ /ض- د / طويل مغلق /مزيد) و(منضود م- ن /ض- د / طويل مغلق /مزيد) .

—————————————————————————————
الهوامش:
1- لسان العرب (نسق) ، ابن منظور 10/352-353.
2- مقاييس اللغة، ابن فارس 4/505-506.
3- صحيح مسلم، الحاكم النيسابوري 2/695؛ 4- سنن البهيقي الكبرى، البهيقي 3/374.
5- مقاييس اللغة 4/506.
6- معجم مفردات الفاظ القران، الراغب الاصفهاني، ص 381 ؛ البرهان في علوم القران، الزركشي 1/53 .
من بلاغة القران ، احمد بدوي ، ص 75 .
معترك الاقران في اعجاز القران ، السيوطي 1/25 .
اعجاز القران ، الباقلاني ، ص 57 .
التعبير القراني ، بكر شيخ امين ، ص 201 .
البرهان في علوم القران 1/169-170 .
المصدر نفسه 1/72 .
النكت في اعجاز القران ، الرماني ، ص 90 .
التبيان في تفسير القران ، الطوسي 10/127 .
تفسير مجاهد ، مجاهد 1/343 .
البرهان في علوم القران 1/75 .
علم الأصوات العام ، بسام بركة ، ص 121-224 .
المصدر نفسه ، 121-123 .
الجرس والايقاع في التعبير القراني ، كاصد الزيدي ، ص 353 .
اثر القران في تطور النقد العربي ، محمد زغلول ، ص 243 .
البرهان في علوم القران 1/76 .
المصدر نفسه 1/75 .

 

نشر في الولاية العدد 77

مقالات ذات صله