مملكة المناذرة تاريخ وحضارة


ارشد رؤوف القسام

تمتاز حضارات وادي الرافدين بتنوعها الزمني والمكاني فتكاد لا تخلو بقعة من بقاع العراق الآ وفيها أثر يشير الى عمق وأصالة حضارة سادت وبلغت ذروة في المجد ثم تلاشت بعد ضعف طبيعي لتظهر أخرى ليست ببعيدة عنها لتبدع وتتألق في سما الحضارة ألأنسانية الأصيلة … سنشير اليوم وبكل فخر وأعتزاز ألى مملكة المناذره وكما تعلم عزيزي القاريء الكريم في ملف (أروقة نجفية) وفي كل عدد لنا وقفة تراثية آثارية حضارية نمر بها بما تسمح فية المساحة الورقية المخصصة لي من جهة ولجعل القاريء باحثاً يتحرى المصادر أذا شاء ألأتساع من جهة أخرى…

فمملكة المناذره هي من السلالات العربية التي قامت في وادي الرافدين وعاصمتها الحيرة (وهي اليوم من ضواحي النجف) وكانت مسيحية العقيدة .. وقد أسسها قدامى العرب الذين هاجروا من اليمن السعيد بعد أنهيار سد مأرب الحدث التاريخي المجلجل والذي يعرف تاريخيا (السيل العرم) فهاجرت قبائل تنوخ ومنها بنو لخم الى المناذرة ولاسيما بعد زوال مملكة ميسان ومملكة الحضر وقد أستمرت مملكة المناذرة من (265وحتى 633 ميلادية)وكما تشير المصادر …. الى ان مملكة المناذرة تعاونت كثيراً مع مملكة فارس المجاورة لملكها ولعل من اهم ذلك التعاون هو مساعدتها في صد غزوات قبائل الصحراء القادمة من شمال الجزيرة العربية كما ساندت مملكة المناذرة جيش بلاد فارس في حربهم ضد جيش الرومان في معركة (كالينيكوم) وقد أبلت مملكة المناذرة في تلك المعركة بلاءً حسننا لما أبداه جيشها الكبير من شجاعة ويسالة منقطعة النظير وكان يقود ذلك الجيش القائد الشجاع (المنذر الخامس) فعلى الصعيد العسكري كانت للحيرة منظومة عسكرية كبيره من حيث العدة والعدد وهذا يوصف من جوانب الإرتكاز القوية لقيام اي مملكة وحضارة إمبراطورية وسواء الحال في كل زمان ومن الدلائل ألأخرى لقوة وبسالة جيش مملكة المناذره بكل السياقات العسكرية من حيث التدريب وقوة الخطط الحربية هو نجاحهم في معارك الغسساسنة وغيرها كما تشهد لهم إلإنجازات العظيمة التي امتدت بملكهم إلى أطراف الشام بإتجاه البحر المتوسط ومن جهة أخرى وصلت أقصى سواحل الخليج حيث عمان وهذا ما يثبت لإمتلاكهم أسطولاً بحرياً متمكناً ومحترفاً ويستدل على ذلك بوساطة مهاجمتهم لمدن فارسية بعيدة عنهم وكذلك سيطرتهم على مدن أخرى وفي أطراف مختلفه وضمها لملكهم حيث بلغوا نجران وهناك روايات في بعض المصادر التاريخية تشير الى أن (جذيمة ألأبرش) كانت له علاقات وثيقه مع بلاد وممالك بعيدة ومنها علاقته الوثيقه بـ(زنوبيا ملكة تدمر)… لقد أعتز ملوك المناذره كثيرا بعروبتهم وقد أطلقوا على أنفسهم لقب (ملوك العرب) وقد كتب على قبر أمرئ القيس الأول المتوفي سنة 288م (هذا قبر إمرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم) بحسب ما اشارات الى ذلك المصادر التاريخية…. وكذلك من مرتكزات القوة التي تمتعت بها حضارة مملكة الحيره هي الجانب التجاري القوي الممزوج بالحركة الثقافية والعلمية بكل أنماطها وهذا ما منحها القوة والأصالة فإن الحيرة التي أشتق اسمها من السريانيه ومعناها هو (ملتقى الطرق) وهي بحق كانت حين ذاك تقع على مفارق طرق عدة تمثل شبكة الخطوط التجاريه الواسعه حيث قوافل رحلات الشتاء والصيف من جهة الجزيرة العربية وقوافل بلاد فارس وكذلك القوافل الواصلة من البيزنطه والغساسنه وجميعها محملة ببضائع مختلفة فعندما تستريح في الحيرة يقام سوق كبير يحصل فيه بيع وشراء ومقايضة سلعية واسعة تمنح السوق قيمة اقتصاديه كبيره جعلت من أبناء هذه الحضارة أن يبدعوا في جانب الصناعة والحرفة فعرضوا صناعاتهم الراقية في مجال الغزل والدباغة والفخار … وكان يقام على هامش هذا السوق وكما تشير الى ذلك المصادر التاريخيه سوقٌ شعريٌ وثقافيٌ وعلميٌ حيث يكون مهرجاناً أو مؤتمراً ثقافياً كبيراً ويقام في الحيرة وتحديدا في منطقة يقال لها (دومة الجندل) حيث ينشد فيها الشعر العربي أبهى القصائد وكذلك تلقى الخطب الرنانه وكذلك يعرض الأخرون نتاجهم الفكري وهم من مذاهب فكرية شتى وأقوام مختلفه وقد كان ملوك الحيرة يشجعون الشعراء وذلك بالإحترام والتقدير والعطايا والصلات وكان (النعمان بن المنذر) يحرص على لقاء الشعراء العرب في قصر الخورنق ومن شعراء الحيرة ( أمرؤ القيس والمثقب العابدي وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وعدي بن زيد وعمر بن كلثوم ولبيد بن ربيعة ) وغيرهم…. وكانت في الحيرة أديرة تدرس العلوم الدينية، وكذلك مدارس للعلوم المختلفة فقد وصفت الحيرة حين ذاك مدرسة كبرى تعرض أفكار العقيدة المسيحية بأسلوب علمي صحيح ومن الحيرة ايضاً (أيليا الحيري) الذي وصف بأنه صاحب فكر عقائدي ونشر فكره على نطاق واسع وهو الذي أسس عدداً كبيراً من الأديرة التي تدرس العلوم الدينية … واشتهرت الحيرة بعلومها المختلفة من رياضيات وفلك وطب -(الذي أشتهر كثيرا في الحيرة)- وكذلك ألأدب والفنون ألمختلفه وقد درس في الحيرة العديد من القادة والملوك من الممالك المجاورة ولاسيما من بلاد فارس وتخص المصادر التاريخيه بذكر الملك (بهرام الخامس) بتعلمه في الحيرة لمختلف الفنون والآداب والعلوم … لقد سجل أهل المناذرة أغلب كتاباتهم بأقدم أنواع الخط العربي والذي عرف لهم وقد أكد ألمؤرخون بأن الكتابة العربية تعود أصلا بتناسقها وتنظيمها إلى ألحيرة وألأنبار اللتان سجلتا في ذلك صفحات مشرفه تدل على عمق وأصالة ثقافتها المعطاء….
وأمتازت الحيرة ايضاً بالبناء فأنشؤوا القصور والأديرة والكنائس بأجمل فنون العمارة وذلك واضح في قصري الخورنق والسدير من ارقى القصور وقد أشارت التنقيبات ألآثاريه التي جرت في العصر الحديث الى قوة ورصانة المبنى الحيري وهو المشيد من ألآجر حيث طبيعة المنطقه رمليه وطينية في الغالب ويتضح فيما بعد على جمالية وقوة الطراز الحيري وقد حاكى العباسيون قصور الحيرة في البناء وهم أيضا كان لأمرائهم رغبه عارمة في التشييد والعماره …

نشرت في الولاية العدد 122

مقالات ذات صله