فهم النصّ بين الجمود والإبداع

icon_13585

د. عادل عباس النصراوي

يختلف الناس في مشاربهم الثقافية والعلمية والفكرية، وربما كان للبيئة التي يعيشها الفرد أثرها الكبير في بناء وتكوين البنية الثقافية له، فالفرد لا ينفك منها وبدرجات متفاوتة وتظهر آثار ذلك في رؤاه الفكرية وقراءته للأحداث، ومنها قراءته لأي نصّ يُعرض عليه، فيفهمه فهماً يختلف عن غيره أو قد يتفق معهم في بعض المسائل كثيراً أو قليلاً.

مراحل تشكل الثقافة العربية
الثقافة العربية التي تشكّلت منذ البعثة الإسلامية حتى يومنا هذا قد مرّت بعدة مخاضات عسيرة في سبيل تكوين اتجاه معرفي خاص بالمثقف العربي والمسلم، وربما كان للعامل السياسي أثره الواضح في تشكيل العقلية العربية والمسلمة في توجيه دلالة النص الديني بما يُناسبه، ويخدم توجهاته التي ينبغي من خلالها خدمة النظام السياسي وديمومته.
فنشأ ما يسمى بالثابت وقد عرّفه أدونيس: بأنه الفكر الذي ينهض على النص ويتخذ من ثباته حجه لثباته هو ، فهماً وتقويماً ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص وبأنه السلطة المعرفية .
هذا الفهم يرى أن الحقيقة منحصرة به ولا يرى أن الآخر له الحق فيما يراه مناسباً في النص ، وربما كان ذلك مايُراهُ السلطان على طول الزمن فيعدّ من يخالفه في ثوابته خارجاً عن القانون ، ونتيجة لهذا ينشأ نصّ ثان ٍ موازٍ للنص الأصل، وهو يمثل رأي السلطة وثقافتها، وربما يسود ذلك في الأدب والشعر والفكر عامة ويحوّل هذا النص إلى معيار معرفي.

النص بين العقل والجمود
ونجد آثار ذلك في الثراث العربي -الإسلامي واضحة، فهذا ابن حزم الأندلسي يعرّف النص بأنه (اللفظ الوارد في القرآن والسنة، مبيناً لأحكام الأشياء ومراتبها – وهو الظاهر- وهو ما يقتضيه اللفظ في اللغة المنطوق بها)، وهو بذلك يرفض تقليد آراء الصحابة والتابعين، وهو من الطبيعي أن يرفض تقليد آراء الفقهاء، بل عدَّ التقليد بدعة يجب محاربتها، ويكون بذلك قد حجب العقل عن محاورة النص واستنطاقه وحجّم دوره.
وكذلك نرى ابن تيميّة هو الآخر رفض أن يفعّل العقل واستنطاق النص بل عدَّ مقابلة الكتاب والسنة بالعقل بدعة، بل جعل ذلك من افعال الضلاّل، لأنهم في نظره يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشبهة مجملة تحتمل معاني متعددة والنص عندهم لايحتمل إلاّ حقيقة واحدة يراها هو وحده ، وهذا مذهب السلفية.
وفيما ظهر تيار آخر مضاد للأول تمثّل في تفعيل العقل في محاورة النص واستنطاقه لأجل اظهار كل الدلالات المحتملة ، وأول من رفع راية العقل عالية المعتزلة فأوّلوا ما جاء به النص مخالفاً للعقل بما يجعل النص ذا مقدرة عالية على التكيّف مع الواقع وتجدّده.
هذا الاتجاه في موضع آخر كان لا يرى في النص أي مرجعية لأنّ أصحاب هذا الرأي اعتمدوا اساساً على العقل لاعلى النقل.

وسطية الإمامية
في غضون ذلك اعتمدت الإمامية الوسطية بين الاعتماد الكلي على العقل واهمال المرجعيات للنص, والالتزام بظاهر النص فقط دون التفكير بأهمية العقل، وهذه الوسطية انشأت قراءة جديدة للنصّ الديني، ونجد آثار هذا الاتجاه ظاهرة في قول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السلام) وهو يتحدث عن القرآن الكريم فيقول: (ذلك القران فاستنطقوه ، ولن ينطق ، ولكن اخبرهم عنه ألا إن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودرء دائكم ونظم مابينكم) فجعل من محاورة القرآن خير وسيلة لاستنطاقه فضلاً عن كونه مرجعاً ومصدراً ، فالمحاور يقوم بدور من يطرح المشاكل والأسئلة والاستفهامات على ضوء الحصيلة البشرية الثقافية التي تكوّنت بفعل العوامل الاجتماعية والبيئية وغيرها على أشرف كتاب للبشرية، فيتلقّى منه من خلال عملية الحوار الأجوبة من الآيات الشريفة، كما يذهب إلى ذلك الامام السيد محمد باقر الصدر.

الحوار مع القرآن
ونتيجة لهذا الاستنطاق ستتولّد عدة قراءات لكنها لم تكن متباينة ،إذ إنّ الحوار مع القرآن سوف يترك مشتركات كثيرة بين تلك القراءات،إذ إن النص القرآني يحاكي كل العقول، لذا فهو يُنكر أن ينهض الفكر على النص أو أن يكون موجّهاً له، وان حدث ذلك فيصاب بالجمود وعدم الإبداع لأنه سيبقى حبيس قراءة واحدة وان تعدّدت الازمان ومرّت الحقب.
وربما يكون للتجربة اثرها الفعّال في تجدّد القراءات وازدهارها، وديمومة أثر النص في انتاج المعاني وذلك انها تُغني العقل وتوسّع المدارك في ايجاد طرق اخرى للولوج إلى النص وكشف مضامينه، قال الإمام على بن ابي طالب (عليه السلام) : (العقلُ عقلان، عقلُ الطبع وعقلُ التجربة) فعقل الطبع هو الخزين الثقافي المنبعث من المجتمع والبيئة في نشأة الفرد الأولى ، في حين يكون عقل التجربة منبعثاً من مجموعة القيم والممارسات اليومية المتجدّدة التي تولّد معاني جديدة وقراءات جديدة لكل حدث أو نص، وهذا هو مذهب التحرر والانعتاق من الجمود والنظرة الواحدة.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله