فائق الشمري
عمّرت في العراق المدن ومصرت على اديمه حواضر تاريخية كبيرة، فكانت البصرة، والكوفة، وبغداد، وواسط، وسامراء، والموصل، بعض مدنه عناوين مميزة ارتبطت بها أحداث وأسماء لامعة في سماء الفكر والمواقف.
الكوفة اسم لامع من بين تلك الاسماء، فهي حاضرة الفكر والمعرفة، شعت منها بركات كبار العلماء والفقهاء ممن حفظوا الدين وصانوا المذهب من الضياع والاندثار في وقت تكالبت فيه الدنيا عليه رغبة بان يخبو نور تلك المدرسة العلوية الاصيلة.
ظهر الكوفة -النجف- متنفس كبير، ملك الدنيا في وقت من الاوقات، واستقطب أنظار من كانوا يسكنون فيه، لاعتدال أجوائه وطيب هوائه ونقائه مزداناً بالخضرة النضرة وكثرة الازهار حتى عرف بخد العذراء لذلك.
وهذا ملك من ملوك ذلك الزمان يخلع اسمه على احدى الزهور التي كانت منتشرة فيها وسماها (شقائق النعمان) لشدة إعجابه بها، بل ذهب إلى أكثر من ذلك وهو معاقبته كل من يجرؤ ويقطف إحداها.
على ان تاريخ هذه المدينة لم يقتصر على ذلك حسب، بل كان لها تاريخ آخر ضارب بالقدم ارتبط بقدامى أهل العراق وهم البابليون على وجه التحديد، حينما عزم بخت نصر على جعل ظهر الكوفة حصنا آمنا جمع فيه القبائل العربية مستفيدا من ارتفاع المنطقة عما جاورها(1)
على أن المتتبع والراغب بالاستزادة يجد في بعض كتب التاريخ نصوصا تشير الى حوادث مرتبطة بالكوفة أكثر قدما في تاريخها من ذلك، منها ما يعود إلى زمن النبي إبراهيم (عليه السلام)(2).
من كل ذلك يتبين ان للكوفة وظهرها فضلاً وخصوصية.. بتاريخها الضارب في القدم، وحاضرها المميز، ومستقبلها الكبير يوم تتوج عاصمة لحجة الله في أرضه.
روى الشيخ الصدوق في الخصال، بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (إن الله اختار من البلدان أربعة فقال عز وجل: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة)(3).
من هنا يتبين السر الذي جعل الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يختارها مركزا لخلافته، ومستقرا لجسده الطاهر بعد شهادته، ومحلا لتأملاته والخلوة بنفسه: (وكان اذا اراد الخلوة بنفسه أتى طرف الغري)(4) .. إذ يجد في هوائها ما لايجده في غيرها مصوباً نظره نحو السماء غارقاً في تأملاته يخاطبها بالقول: (ما أحسن ظهرك وأطيب قعرك! اللهم اجعل قبري فيها)(5) استنجازاً لبشارة أخبره بها المصطفى(صلى الله عليه واله): (…ثم أرض كوفان فشرفها بقبرك يا علي..
فقال: أُقبرُ بكوفان العراق؟
فقال له: نعم ، تقبر بظاهرها قتلا بين الغريين والذكوات البيض..)(6).
لذا لم يتوانَ عن شرائها من الدهاقين (التجار) بأربعين الف درهم وأشهد على ذلك، برغم إشكال الاخرين عليه بكونها لا تنبت وليس لها حظ من الزراعة.. فكان يجيب بما عرف عنه من ورع ودماثة خلق وهو خريج مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه ليطلعهم على سر كبير عجزوا ان يدركوه، فكان يجيبهم بقوله: (سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : «كوفان يرد أولها على آخرها، يحشر من ظهرها سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب».. فاشتهيت أن يحشروا في ملكي)(7).
وذكر الحموي في معجم البلدان عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
(الكوفة كنز الإيمان وجمجمة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث يشاء، والذي نفسي بيده لينصرّن الله جلّ وعزّ بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز)(8).
كما يروى عن سلمان المحمدي انه قال: (الكوفة قبة الإسلام، يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا بها أو قلبه يهوي إليها)(9).
هذا نزر يسير من فضل هذه المدينة وأهلها ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الميامين وأصحابه المنتجبين، مما جعلها تمتاز بمكانة خاصة بين سائر البلدان .. جعل منها مدينة المدن الولّادة للعلم والمعرفة، مدينة خارج الزمن مثلها كمثل (حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الكافي ، الكليني: 1/10.
2. معجم البلدان، الحموي : 1/331.
3- ا الخصال، الشيخ الصدوق،:ص225.47.
4. البحار، المجلسي: 223
5. فرحة الغري، علي بن طاووس: 2/23
6. الغارات، الثقفي:2/844.
7-الغارات، الثقفي: 2/845.
8- معجم البلدان، الحمويني:ج4ص492.
9- المصنف، ابن أبي شيبة: 7/554.
نشرت في الولاية العدد 88