هشام أموري ناجي
عروس البحر، حريم السلطان، مهند ونور، سنوات الضياع، العشق الممنوع، فريحة.. والعشرات من المسلسلات المدبلجة التي عرضتها شاشات التلفزة العربية، ومع انها مسلسلات لا تحمل اعراف المجتمع ولا تحاكي تقاليده الا انها استطاعت ان تجمع حولها المعجبين من الشباب بل حتى أسرا بأكملها وتؤثر في نمط حياتهم..
فما الاسباب التي جعلت هذه المسلسلات تنتشر بهذا الشكل في العالم العربي وما انعكاساتها عليه؟ وسر هذه اللعبة التي خلطت السم بالعسل وقدمتها للعائلة المسلمة..
منذ أواخر التسعينات حتى الان ظهرت في قنوات التلفزيون العربي مجموعة من المسلسلات المكسيكية والارجنتينية المدبلجة الى اللغة العربية، تبعها بعد ذلك انتشار المسلسلات التركية المدبلجة وفي الآونة الاخيرة انتشرت المسلسلات الهندية المدبلجة وفي كل مرة تلاقي هذه المسلسلات رواجا في الشارع العربي بشكل غريب.
ولا شك ان تنوع مصادر هذه المسلسلات بين الحين والاخر له تأثير في جعلها فعالة في الاوساط العربية، اذ لا يصيبهم ملل وهم يتابعون احداث درامية تنقل حضارة وتراث شعوب لم يكن العربي قد تعرف عليها عن كثب، وقد اعطت هذه الدبلجة باللهجة العربية السورية او المصرية نكهة خاصة لهذه المسلسلات وجعلتها تجذب المشاهدين اليها وبقوة.
ومما يميز هذه المسلسلات طولها غير المعهود اذ ان المسلسلات العربية تبلغ في اغلب الاحيان ثلاثين حلقة فقط ولم يعهد المجتمع العربي مسلسلات يصل عدد حلقاتها الى 150 حلقة وربما يكون لبعض هذه المسلسلات اجزاء متعددة.
اذا كان طول الحلقة الواحدة للمسلسل الذي يبث يوميا يبلغ 45 دقيقة فان معدل الوقت الذي يستهلكه المشاهد لمتابعة المسلسلات كاملة يبلغ(6750 ) دقيقة، هذا ان لم يكرر مشاهدة الحلقة مرة او اثنتين او ثلاث.
وهذا الوقت يفوق مقدار ما يستهلكه الطالب في المدرسة اذ انه يقضي ما لا يزيد على (6400) دقيقة خلال السنة الدراسية كلها يتعلم مادة علمية من المواد المقرر في المناهج التعليمية.
ونتائج هذه المقارنة اليسيرة هي بحد ذاتها امر مرعب اذ ان الجمهور العربي من خلال متابعته لهذه المسلسلات يدخل في دورة تعليمية يفوق تأثيرها تأثير المواد العلمية التي يحصلها الطالب في المدرسة وبخاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الطالب قد لا يستوعب الكثير من دروسه لعدم حبه لها في حين ان المشاهد لهذه المسلسلات سوف يحتفظ في ذهنه كل تفاصيل احداثه وخلفياتها الاجتماعية والثقافية لاقباله على متابعة هذه المسلسلات بشغف.
مالذي يريده المنتج
لا شك ان هذه المسلسلات تكلف منتجيها إيرادات ضخمة، ولعله تقف وراءها طاقات مالية عملاقة وحتى دول دون مبالغة، وبالتأكيد ان صرف هذه الاموال لن يكون دون مقابل، فلهم غاياتهم وطموحاتهم من وراء هذا العمل، بالتأكيد غايات سياسية بالدرجة الاولى وأخرى أقتصادية، وأخيرا أجتماعية.. فهذه المسلسلات توفر مساحة واسعة من الحركة لبعض الحكومات للتمدد داخل المجتمعات المستهدفة بأسلوب الحرب الناعمة وتستطيع ان تسوق الكثير من الأهداف والرسائل التي تريد لها ان تنمو في ذهنية المشاهد لإيصاله الى قناعات تخدم مصالحها ونفوذها السياسي.
ومن جانب آخر هذ سوق رائجة تساهم بانتعاش السياحة والحركة الاقتصادية في تلك البلدان، فمع كل مسلسل مدبلج جديد يعرض على شاشات التلفزة العربية تنشط حركة تبضع من الاقمشة و الازياء و المستلزمات الاخرى من ذات البلد الذي انتج فيه ذلك المسلسل، ومن جانب آخر فقد اكدت صحيفة ايلاف الالكترونية ان حجوزات الطيران السعودي قد شهدت اقبالاً منقطع النظير للسفر الى تركيا تزامنا مع عرض مسلسلي (نور) و(سنوات الضياع), وان الحجز السابق يمتد لمدة ثلاثة اشهر كاملة.
على ان هذه الغايات الدنيئة تحتاج من أجل تحقيقها العمل على جذب المشاهد من خلال حرفية عالية وبأحدث التقنيات المتاحة لإبهار المشاهد وجعله متسمرا امام الشاشة حتى انتهاء المسلسل بل وانتظار اليوم التالي لمشاهدة الحلقة اللاحقة منه.
هذا الحال فرض بشكل لا يقبل الشك تأثيرات اجتماعية وثقافية كبيرة انعكست بسرعة على المجتمع العالمي، ومن يشك في ذلك عليه ان يطلع على نماذج من المشاكل الاجتماعية التي برزت على الساحة العربية بسبب هذه المسلسلات فقد نقلت صحيفة اليوم السعودية ان اسرة بحرينية تقدمت لطلب يد فتاة سعودية تدعى نور لابنهما الشاب محمد وقد فوجئت الاسرة بان العروس طلبت تغيير اسم الزوج من محمد الى مهند تأثرا بالمسلسل التركي المدبلج «نور» ونقلت الصحيفة عن احدى قريبات الشاب محمد قولها: (ان جميع اسرة محمد واسرة العروس نور في حالة من الدهشة الشديدة بهذا الطلب بخاصة ان الرد جاء بعد ثلاثة اسابيع من الانتظار ولم يكن متوقعا لأنه يصعب تحقيقه).
اسباب التاثير الواسع
يُعزى عدد من الباحثين ان اهم اسباب هذه المسلسلات يعود الى الحرفية الالية في انتاجه وحالة الترف التي يعيشها ابطال المسلسلات هذه، وقد كتب في هذا الصدد الباحث والدكتور عبد الله العابد قائلا: تميزت هذه المسلسلات باخراج جيد و مناظر طبيعية خلابه و يجري تصويرها في أماكن فارهة وجميلة وازياء وموسيقى جذابة .
واضاف : تستعرض المسلسلات المدبلجة علاقات اجتماعية واحداثا مثيرة تمتد بين الوفاء والخيانة و الامانة والغدر والايثار والانانية والقناعة وغيرها من المتناقضات السلوكية التي تشد انتباه المشاهد وتقدح غرائزه ليحب شخصيات ويكره اخرى مما يدفعه لمتابعة حلقات المسلسل وانتظار النتائج لتتحقق من صحة توقعاته لما سيحدث في الحلقات المقبلة .
ويبين الدكتور عبد الله العابد: ان كل ذلك يعد عوامل مساعدة اضافة الى ما يظهر به ابطال تلك المسلسلات من وسامة ورومانسية جعلت منه نماذج للعشاق واشبعت ما هو مفقود من العلاقات العاطفية التي يفتقدها الكثير من المشاهدين العرب في حياتهم الواقعية.
وقد اكدت الباحثة الدكتورة ريا قحطان احمد هذا الجانب قائلة: ان الفراغ الذي يعانيه الشاب العربي وجهله بالعلاقات الاجتماعية من اكبر الاسباب التي تدعو الى رواج هذه المسلسلات، اضف الى ذلك ان مؤسساتنا الثقافية لم تقدم للشاب العربي ما يسد فراغه ويشبع معرفته الاجتماعية، ولما كانت هذه المسلسلات تدور على محور العلاقات الاجتماعية، فانه ينكب على متابعة هذه المسلسلات ليسد هذا الفراغ.
المثلث العاطفي في المدبلجات:
ليس من الصعوبة تحديد ان الغالبية العظمى من هذه المسلسلات تركز على العلاقات الجنسية غير الشرعية وتعدُّها علاقات طبيعية، فضلا عن انتشار صرعة الازياء الخليعة، وتعاطي الخمور والقمار والزواج السري والتحرر من جو الاسرة وعدم التفريق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.
كل هذه العوامل القت بظلالها الشديدة على سلوك العربي، فازدادت حالات الخلاف الاسري وحالات الطلاق وتمرد الابناء وارتفاع وتيرة الجرائم الجنسية، واصيبت الاسر العربية بعوق يصعب الشفاء منه.
وفي هذا الصدد اجرت الباحثة ريا قحطان بحثا تضمن عينة من خمس مسلسلات مدبلجة عرضت منذ العام 2008 ولغاية العام 2013 فوجدت ان مواضيعها الاساسية تدور حول العلاقات الاجتماعية، وبالذات حول المشاعر الانسانية والعواطف المتبادلة بين الرجل والمرأة حصرا، وتلعب العلاقات العاطفية الاخرى بين الاب وابنائه او بين الام وبناتها مثلا ادوارا ثانوية في مثل هذه المسلسلات.
وقد وجدت الباحثة ان ابطال المسلسلات المدبلجة التي تلعب الأدوار الاساس في العلاقات الاجتماعية العاطفية تكون في الغالب نماذج ثلاثة تتمثل بزوج وزوجته ورجل ثالث يمثل دور الحبيب.
وتقول الباحثة: انها وجدت في الحلقات الخمسين الاولى من كل مسلسل ان الزوجة تظهر بصورة المرأة الشجاعة والطيبة والحنون وفي الوقت نفسه يظهر زوجها في مظهر الانتهازي والاناني والسيئ الخلق مما يجعل مشاعر المشاهدين ترتبط بمشاعر الزوجة ويتعاطفون معها.
بعدها يظهر المسلسل شخصية الحبيب التي تجمع كل الصفات الايجابية من شجاعة ورجولة واخلاص ومن ثم فان هذه النماذج الثلاثية تجعل من المبرر جدا ان تخرب الزوجة علاقتها الزوجية من اجل ان ترابط بالحبيب الذي يمثل دور المنقذ وفي هذه الحالة سيجد الجمهور نفسه متعاطفاً مع الزوجة التي تقيم علاقة مع شخص اخر غير زوجها وسوف تنمو لدى النساء ثقافة ان الزوج في الغالب هو مثال سيء وان اي بادرة سلبية تظهر منها سوف تتضخم في عينها وستطلع دائما الى رجل اخر يكون هو المنقذ لها من ازمتها.
اما بالنسبة للشاب فان هذه المسلسلات تدفعه الى ان يبحث في علاقته مع النساء عن اللواتي يرتبطن بازواج وجميع هذه الظواهر الاجتماعية هي ظواهر مخالفة لما يسود في الواقع ومن ثم فان هذه المسلسلات تعد من اكبر الاسباب التي تشوه واقع العلاقات الاجتماعية وبخاصة في المجتمع العربي.
نشرت في الولاية العدد 97