علي اسماعيل سبتي
تعد القباب من العناصر المعمارية البنائية المميزة في فن العمارة الإسلامية حيث أن أستعمالها وعملية توظيفها معمارياً كان معروفاً في الأقاليم العربية قبل الإسلام ، وقد فُعًلت كعنصر وظيفي في بداية الدعوة الاسلامية وعنصرا جماليا فيما بعد في الأضرحة والمساجد وقبور الأولياء إذ أنتشرت صعوداً في مراحل متقدمة من العصر الإسلامي من شكلها البسيط الى ان وصلت الى فن معماري أسلامي متقن بناءا و تصميما وفناً وجمالاً إذ بدأت أشكالها تتشاكل أو تختلف مع بعضها البعض في دلالة واضحة على مدى المهارة التصميمية والبنائية التي أستطاع الفنان( المعمار) المسلم ان يتوصل لها سابغاً إياها بسمة إسلامية سواء كانت دينية أو دنيوية في المسجد أو القصر ..
أن ابرز فروع الفن الاسلامي التي تأثرت بالجانب الروحي هو فن العمارة التي عُني المسلمون الأوائل بها وأن تكون مهمتها الأولى خدمة الدين ومن ثم فقد تطورت العمائر الدينية تطورا سريعا واختلفت أشكالها ووظائفها فظهرت المساجد والجوامع والمدارس الدينية على أننا اذا اردنا أن نتتبع تطور العمارة الاسلامية وعناصرها وجدنا ان المسجد هو حجر الزاوية فيها.
يعد فن العمارة الاسلامية عنصرا تشكيليا وظّف توظيفا رائعا عند المعمار المسلم ككيان مستقل بحد ذاته يمثل الفكرة الابداع لمنظومة الفن الأسلامي التي تَمثّلها الفنان المعمار عبر تجربته التي تتكامل في وجوده حسا مرهفا وتجاوبا صادقا لتأخذ مكانها في الأداء الشكلي والبعد الزمني والمرحلي بحضور فعلي في مشاهد الأضرحة المقدسة لتكون قدسيتها منطلقة من رفاة الجسد الطاهر للأمام المعصوم (عليه السلام) ومشعة في ذات الوقت قبس من النور الألهي الذي طالما تلمسه وبحث عنه العابد المحب لآل البيت (عليه السلام)في مثل هكذا مواقع لتمتد عبر تمرحلها الزمني في كل الأماكن التي تنضوي تحت عباءة العمارة الدينية مزيّنة البعض منها بفن الخط العربي مجودا بآيات الذكر الحكيم فضلا عن التحول في لغة الشكل للقبة الاسلامية التي اقترنت بعناصر تصميمية في اللون والقيمة والملمس ودلالاتها في العالم المنظور أي بعبارة اخرى محاكاة العالم العياني الى العالم الفني .
القبة والعمارة الاسلامية
جاءت العمارة الاسلامية لأشكال القباب متشاكلة أو مختلفة من حيث الألوان والتصاميم جماليا وفنيا اذ ان هذه الشواهد أو المصورات لهذه القباب تشير بوضوح على مدى أمكانية الفنان المعمار المسلم في الأنطلاق بحرية في ابتكار نماذج فنية مختلفة من عمارة القباب الاسلامية مستفيدا في ذات الوقت من البيئة المحلية كعنصر جمالي وفق تمظهرات ذات أشكال فنية وجمالية ووظيفية مما اضفى على شكل القبة الاسلامية الجانب الروحي من السمو والبحث عن هدوء الروح واستقرارها في اماكن واوقات مختلفة يبحث عنها الانسان المسلم المتعبد في المسجد أو الجامع أو قبور الاولياء والصالحين أو الأئمة الأطهار عليهم السلام.
حيث تعد القبة من أهم الخصائص البنائية المميزة للأبنية المعمارية للحضارة الإسلامية إذ تجعل هذهِ القباب السقف المعقود أكثر تماسكاً مضيفةً إلى البناء المعماري قدسية وعظمة جمالية لما تتركه في النفس من أحاسيس عميقة ومشاعر جياشة تدفع الإنسان المسلم فيما بعد إلى التأمل في الوجود والبحث عن المطلق إذ أستخدمت القباب في العالم الإسلامي في الجوامع والأضرحة وهي على أنواع مختلفة ومتشاكلة من حيث الشكل التصميمي والبنائي واللوني والجمالي وطريقة تزيينها بالآجر الملّون أو الذهب حينا أو الخزف الملون والمطعًم بأنواع مختلفة من الزخارف النباتية أو الكتابية والوحدات الهندسية بأسلوب فني أخّاذ والتي تكسو القبة من الخارج فضلا عن الاعمال الفنية الزخرفية والخطية المتعددة والمتنوعة من حيث الطراز الفني والجمالي من داخل القبة فالأشكال للقباب في العمارة الاسلامية أما أن تكون( بيضوية أو مخروطية أو نصف كروية أو بصلّية) مع نهايات عرفت بالنهايات المدببة الشكل وقسم منها زيّنت سطوحها بالقاشاني الأخضر أو اللون اللازوردي حيث ينتهي أعلى القبة بنقطة مشتركة يمكن تسميتها بنقطة الصفر , اذ العروج يكون نحو السماء روحياً من خلال هذه النقطة (أعلى قمة القبة) وهو ما يبحث عنه الفنان المعمار المسلم في عملية أنشاء مثل هكذا قباب معمارية أسلامية على أن المسلم في بحث دائم عن عشقه الألهي من خلال الأماكن المقدسة وما تكتنفه من روحانية خاصة تصل به الى ذوبان في المعشوق (الذات المقدسة).
يمكن اعتبار شكل القبة قوس متكرر وملتف حول وسطه ، فالقبة لها قدرة كبيرة على تحمل الأحمال الإنشائية ويمكن مدها على مساحة واسعة في حالة كون القاعدة التي ترتكز عليها القبة مدورة تنتقل الأحمال إلى القاعدة مباشرة إذا كانت القاعدة مربعة ،حيث يجب أن تنشر الأحمال باستخدام وسائل إنشائية مثل المقرنصات أو الأعمدة المدعمة لهيكل القبة وغيرها ,أذ نادرا ما تكون القبة كروية تماما، فأشكال القباب تختلف حسب مواد البناء المستخدمة ،أو التكنولوجيا المتوفرة ،أو الطرز المعمارية السائدة وغيرها من المؤثرات, فهناك القباب المستديرة والمضلعة وذات الأستطالة لبدن القبة والمؤلفة من دور واحد أو دورين أو أكثر, وهناك القباب ذات الزخارف الدقيقة, والأخرى المغطاة بصفائح الذهب أو الرصاص كما في الشكل .
أذ تطلى القباب بقطع وسبائك من الذهب وهي منتشرة في عدد من البلاد الإسلامية في فلسطين والعراق وإيران، أشهرها على الإطلاق قبة الصخرة في فلسطين.
قبة العتبة العلوية المقدسة
يعد العراق بلد القباب الذهبية التي بنيت على أضرحة الأولياء وأئمة المسلمين عليهم السلام ، حيث تعد قبة أمير المؤمنين(عليه السلام) أعلى قباب الأئمة من آل البيت عليهم السلام وأعظمها دقة وأكثرها تنسيقا وأنضرها بهاءً، إذ يبلغ ارتفاعها من القاعدة إلى فوق الرأس المخروط خمسة وثلاثين مترا ومحيط قاعدتها خمسين مترا وقطرها ستة عشر مترا.
وذكر الرحالة «نيبور» في عام 1765 م – وهو أقرب تاريخ لتذهيب القبة أي بعد مرور اثنتين وعشرين سنة – يقول: ((ليس هناك في أي مبنى في العالم سقف أثمن من هذا السقف)). إذا أضيفت قاعدة القبة إلى أرضية الصحن الشريف، فإن الارتفاع يبلغ اثنين وأربعين مترا. وقد استخدم الإسطرلاب في تعيين ارتفاع القبتين الداخلية والخارجية في اليوم الحادي عشر من جمادي الثانية عام 1367 هـ على يد الشيخ مرتضى الكيلاني النجفي.
ويضفي ارتفاع القبة الشريفة للزائر بهجة وسرورا وخاصة عندما يبصرها من مسافة بعيدة وهو في طريقه إلى مدينة النجف. وقد أشار إلى ذلك الدكتور علي الوردي بقوله: (والواقع، إن تذهيب المرقد في النجف كان ذا تأثير نفسي واجتماعي لا يستهان به، فالنجف كما لا يخفى تقع على هضبة عالية، وعندما أخذ شكل القبة المشيدة يلمع تحت أشعة الشمس من جراء طلائها بالذهب صارت تشاهد من مسافات شاسعة في أقاصي الريف والبادية، وشرعت الأفئدة تنجذب إليها من مختلف الأرجاء وتهفو إليها النفوس)*.
ووصف الشيخ علي الشرقي القبة الشريفة بقوله: إذا أقبلنا على النجف، فأول ما يلوح للمقبل على النجف شعلة نور يكونها توهج شمس النهار على شمس من ذهب، وهي تلك القبة الشامخة في وسط الفضاء ، وفي وضع هندسي كأنه أسد رابض يطوف مدينة راكبة على متن الوادي متمتمة بأنف البرية وجمال الربى، يدخل القاصد تلك المدينة وينصرف توا إلى المشهد الشريف.
وذكرت مجلة (السفير) في عددها الثلاثين الصادر في 18 ديسمبر 1928 م، أن للقبة الشريفة من الخارج شكلاً قلّما يوجد له نظير بين قباب الأضرحة، والمساجد أيضاً، في العالم كله, وأشار إلى هذا الوصف الدقيق للقبة الشريفة الرحالة (بايلر) في عام 1790 م حينما قال: «فمن المؤكد أن الناظر إليها عن بعد يراها تلمع وتتوهج, إن هذا المكان هو محط تكريم المؤمنين وتقديسهم»، وهذا الوصف يلتقي مع ما وصفه المؤرخون والباحثون قديمهم وحديثهم.
تحليل القبة جماليا:
ان الشكل التصميمي العام لبدن القبة الخارجي الذي يتألف من شكل بصلي من الخارج وهيمنة واضحة وسيادة للون الذهبي المصفر اللامع المتوهج ليلا ونهارا قد أعطت بعدا جماليا فنيا علاوة على بعدها وعمقها الروحي لما تمثله من رمزية مرئية للأمام(عليه السلام) كما في الشكل(8,7)
تتخللها فتحات للتهوية والاضاءة مما زاد من عملية أكساء القبة جمالاً وروعة خصوصا عند سقوط أشعة الشمس في مختلف ساعات النهار ,أضافة الى الأضاءة الصناعية في ساعات الليل المختلفة مما يجعلها تزدان بألق وبهجة لدى الناظر وفي ذات الوقت وضع في أعلى بناء القبة الشعار الذي يمثل( الكف واشعةالشمس )وهي رؤية فنية رمزية متعالية مستوحاة من بعض المواقف التأريخية للأمام علي (عليه السلام) كما في الشكل ، حيث يرمز الكف الى بيعة يوم الغدير بكل ما يحمل هذا اليوم التأريخي الأسلامي من معان سامية رسالية مرسلة من السماء تم تبليغها الى الناس جمعاء من خلال نبينا الكريم محمد (صلى الله عليه واله) وما يمثله يوم الغدير في ذاكرة الأنسان المسلم علاوة على الجذر التأريخي لهكذا عنوان ,أذ استقر هذا الرمز (الكف)على شكل دائري كبير يمثل الشمس بأشعتها الذهبية المشرقة لتحيط بدائرة الشمس و لتكوّن لنا الشعار الذي يوحي برمزية عالية الى شخص الأمام علي (عليه السلام) لترتفع وتتماهى الى الأعلى في كبد السماء خالقة لنا صورة جمالية من الألوان المتناغمة للون الذهبي الأصفر على فضاء سماوي حيث الفضاء المفتوح على وفي كل الجهات وبالتالي فأن الشعار بحجمه الكبير يذوب في الأعلى جماليا ليستقر في النهاية على أعلى نقطة من قمة القبة الشريفة للأمام (عليه السلام) ,أما القاعدة التي استند عليها البناء المعماري للقبة ذات الشكل البصلي فهو قاعدة دائرية من الآجر الذهبي يعلوه حزام دائري من اللون الأزرق الغامق المتناغم لونيا وهو دلالة على اللون الذي يشير أو يرمز الى الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) زيّن بآيات قرآنية كريمة ليحاكي المناخ العام اللوني للقبة ,حيث تخلل هذا الشكل المعماري فتحات (شبابيك) للتهوية صممت على طراز أسلامي بشكل قوسي غطيت بنوع من الزجاج المظلل ليكسر أشعة الشمس الساقطة على والداخلة الى الضريح المقدس وبذلك تتحقق جمالية المكان (القبة) من حيث اللون المهيمن على الجدار لخارجي لبدن القبة , ان هذه القبة بشكلها الأسلامي جاءت لتعَّبر بشكل واضح عن مدى أمكانية الفنان المسلم في الولوج الى مناطق إبداعية فنية وفي عملية خرق للذائقة العامة لدى المسلمين في جعل القبة بمثل هكذا نوع معماري الا أن التشاكل قد جاء من خلال الوظيفة النفعية لشكل القبة وهي أشارة واضحة على مكان ضريح الأمام علي (عليه السلام) وبذلك يتحقق الهدف من أنشاء مثل هكذا معمار وهو جعل الانسان المسلم سواء كان طالب علوم شرعية أسلامية أم متلقي محب (مشاهد) يدخل في الجو الروحاني العبادي الاسلامي الذي يبحث فيه عن المطلق والوصول الى مراتب عليا في العبادة قرباً من الذات الالهية.
نشرت في الولاية العدد 101