تحقيق: شاكر القزويني
لست ممن يسعون الى كسر عمود الشعر أو الى خرق بحور الأوزان الشعرية، بل اني من المحافظين الحريصين على حفظ تراثه فالشعر (ديوان العرب)، لكني أيضا لست من القائلين بجمود النص والانكفاء داخل التراث بشكل يدفع الى الانقياد دون مراعاة للتطور الابداعي وتجدد الرؤى بموضوعية دون تشنج أزاء التراث، مع مراعاة بنية الاطار العام فيه، رغم تعدد التجارب والاضافات السابقة التي وجدت طريقها للقبول لاحقا رغم الرفض والممانعات من قبل المتخصصين من نقاد وشعراء وأصحاب رأي بهذا الموضوع، فضلا عن تجدد آراء الأقدمين أزاء هذا الموضوع عند المجددين.
إجماع أهل الشعر وخلافه
لقد جاء الأقدمون بشعرهم على نمط موسيقي يكاد الخلل فيه يكون جمالا، وأما تدوين العروض وتسجيلها فلم يخرج عن الدروب التي كان الشعر يجري عليها، وإنما جاء تثبيتا لها وتقييدا، ورأوا أن عدم اتساق النص مع العروض لا يعد منقبة، حتى لو جاء بأشجى وأعذب نغم. وعلى هذا فان الأقدمين لم يكونوا واعين باتيانهم الزحافات والعلل فكادت أن تكون جمالا، لأنهم نظموا على فطرتهم الموسيقية (آذانهم) وهي هبة يعرفها الشعراء وغير الناظمين، وكان من اخترع الأوزان قد تبين الزحافات حسب قوانينه هو لا هم، ليحفظ البحور للمتأخرين عن زمانهم، وكان السابقون أولئك الذين كانوا بشرا مثلنا عاشوا في ظروف وثقافة أدنى من وضعنا المعرفي والفني بكثير، ولا زلنا نتبعهم خائفين عن الحياد ولو قيد أنملة حتى في زحافاتهم ومخالفاتهم وأحاسيسهم وقوة تعبيرهم، فنبدو وكأننا عاجزون عن الاتيان بلحن موسيقي أتى به اعرابي عاش بين الفيافي والقفار ثم انتقل الى حاضرة هي أقل مدنية بكثير من القرى المتخلفة النائية.
ان العقل العربي ومنذ مئات السنين لم ينتج نتاجا ذاتيا جديدا الا ما ندر، فكل ما نقول ونبدع هو اجترار للأولين او محاكاة ونقل عن الآخرين، وفي كل مجالات الفكر والثقافة والعلوم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وان في جذورنا الثقافية والانثروبولوجية ما يدعو الى الخوف من كل جديد، فننساق دون وعي أو حجة الى محاربته، فبدت هذه كمأساة أمة ابتليت بابداعها ومكمن تقدمها وتفوقها. ويصوغ الفكرة هنا ما أشار اليه الإمام أبو الحسن علي عليه السلام إذ قال:» الناس أعداء ما جهلوا».
الترخص العروضي والنظام
وبصدد قضية الشعر هذا الفن القولي المبهر ومجالات الترخص العروضي فيه، كخطوة قد تقود للابتكار، يقول الدكتور عبد الباسط بدر في كتابه (قضية الحداثة): إن الترخص العروضي سواء أكان زحافاً أم علة هو في تحقيق وضعه ليس أكثر من «مجرد انحراف عن النظام، به يصبح ذلك النظام أكثر وضوحاً وأقوى ظهورا، شريطة أن تقع درجة هذا الانحراف داخل إطار الاستجابة الكلية للمتلقي». بمعنى أن الهدف الأساس من هذا الترخص العروضي وإسهامه في تغير إيقاع القصيدة ليس تحطيم النظام وخرقه على نحو عبثي، بل هدفه «استعادة النظام»، كما يقول ت. س. اليوت بما ينسجم ويتلاءم مع خصوصية التجربة وقوانينها الداخلية.
وموسيقى الشعر لم يلحقها تغيير كبير، فقد ظلت تعتمد الأوزان المعهودة والقافية، رغم ظهور تنويعات محدودة تتمثل في المسمطات والمزدوجات والمخمسات. وعندما شاعت صرخات الحداثة في وقت متأخر أحدثت تلوينا محدودا في التنغيم الأساسي لموسيقى الشعر.
وفي ميدان النقد الأدبي سابقا فقد أحدث شعر المحدثين ردة فعل قوية عند النقاد اللغويين سابقا فرفضوه لسببين: الأول أنه ليس من العصور التي يحتج بها في اللغة والنحو والصرف، والثاني أنه يتضمن خروجا على «عمود الشعر» الذي ألفوه في شعر الجاهلية وصدر الإسلام. ويمثل هذه الطائفة ابن الأعرابي في قوله المشهور عن شعر أبي تمام: «إن كان هذا شعرا، فما قالته العرب باطل». ولكن النقاد الآخرين أسقطوا السبب الأول فألغوا عنصر الزمن من مقاييس المفاضلة، ورفضوا أن يعطوا القديم أية ميزة إضافية بسبب قدمه.
وأعلن ابن قتيبة أنه «لم يقصر الله العلم والشعر على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره…»، وهذا يطابق ما أشرنا اليه في مقدمة قراءتنا هذه.
وأما السبب الثاني – خروج شعر المحدثين على عمود الشعر العربي- فقد أثار معارك نقدية واسعة، اتخذت شكل الخصومة حول أبي تمام والبحتري، فأبو تمام رأس المحدثين والبحتري رأس العموديين آنذاك. وقد انحاز لكل منهما عدد من النقاد: فكان الصولي وبشر ابن يحيى والحاتمي من أنصار أبي تمام، وكان ابن عمار القطربلي وابن الأعرابي من أنصار البحتري، وما لبث أن ظهر أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، ونصب الموازين النقدية ليوازن بين الشاعرين ويبين حسنات كل منهما وعيوبه، ويقوّم- من ثم – الحداثة ممثلة في شعر أبي تمام.
ويبدو أن قضية الحداثة في نقدنا القديم قد نضجت عند هذا الحد، ذلك أن عددا كبيرا من النقاد في القرون التالية قد تمسكوا بالمقاييس التي أعلنها ابن قتيبة.
وقد تكـررت هذه المقاييس بصياغات مختلفة عند أعلام النقد العربي على امتداد العصور التالية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: المبرد، والآمدي، والمرزباني، والقاضي الجرجاني، وابن رشيق، وابن سنان الخفاجي، وابن بسام الشنتريني، وابن الأثير، وحازم القرطاجني… وغيرهم، فحين جاء الجرجاني أفاد من هذا كله فصارت مقومات عمود الشعر عنده موزعة على عدد من العناصر كلها تخص (المتنبي) بالتقديم وهي: شرف المعنى وصحته، جزالة اللفظ واستقامته، الإصابة في الوصف، المقاربة في التشبيه، غزارة البديهة، كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة. ليشير إلى أن العرب «لم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، أي «نظام القريض»، لأن عمود الشعر القديم يأتي بالتجنيس والمطابقة والبديع والاستعارة عن طبع وفطرة في الإحساس باللغة وليس عن صناعة وقصد أو إعمال فكر وطول تأمل وما يأتي به الطبع يتصف بالمباشرة بعيداً عن الغموض، داخلاً عندهم في (السهل الممتنع)، وهذا ما يكشف عنه أسلوب الأبيات أو النمط الشعري القديم الذي نسب لبعض الاعراب مستوحياً منه طريقة العرب أو عمود شعرها ذلك الأسلوب أو النمط الذي يراه: بعيداً عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المآخذ، قريب المتناول.
المحدثين والموشحات الاندلسية
وفي مضمار التجديد عند المحدثين قام الباحث شفيع السيد بدراسة شعر ميخائيل نعيمة دراسة مستفيضة على اعتباره من المحدثين، وتوصل إلى أن نعيمة قد خرج على ما أثر عن العرب في الزحافات والعلل فقط، وعمل تشكيلات موسيقية جديدة لا تخرج عن الوحدة النغمية القديمة، كـما أنه استغل إطار الموشح استغلالا كبيرا. كذلك فعل جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة، وسائر المجددين من شعراء المهجر.
نشرت في الولاية العدد 107