مفهوم الأمي والأمية في القرآن الكريم

أ.م.د.عادل عباس النصراوي

وردت لفظة ( الأمي والأميين ) في بعض الآيات مرة ينسب إليها في قوله سبحانه (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنـجِيلِ )(سورة الاعراف / الآية 157)، ومرة أخرى يُنسب في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ )( سورة البقرة / الآية 78)، والمقصود بعض العرب اعتنقوا اليهودية ولا علم لهم بكتاب التوراة ولا علم له به، وإنّما يختلقون كلاماً وينسبونه الى التوراة(ظ: مدخل الى القرآن الكريم / د . محمد عابد الجابري: 1 / 81), وكذلك قوله سبحانه (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا)(سورة آل عمران / الآية 20)، فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصّارى، وأما الأميين فهم العرب(ظ:م.ن).

وأمّا قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)( سورة آل عمران / الآية 75)، والمقصود بالأميين هنا العرب أيضاً(ظ: م . ن).
والأمر نفسه في قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(سورة الجمعة / الآية 2)، أي العرب.
نلاحظ أنّ في اقتران لفظ (الأميين) بالكتاب في مجمل الآيات إيحاءً بالضدية، أي ضدية العلم بالكتاب السماوي وعدم العلم به، لمّا كان أهل الكتاب من اليهود والنصّارى يعلمون الكتاب قراءة وكتابة وأخباراً، فأن غيرهم من الأميين يفتقرون الى ذلك(ظ: تأريخ القرآن / نولدكه: 13 – 14), يعني أنّ الأميين في النصّ المبارك, هم الذين يجهلون الكتب السماوية وأخبارها عن السماء بوصف الكتب السماوية قبل الرسالة المحمدية كانت منزّلةً من الله تعالى وترفدهم بأخبار السماء وغيرها من قصص الأولين في حين يفتقر الأميّون لذلك، وقد تنبّه أحدهم لهذه المسألة وقال: (المسألة لا تحتاج الى جدالٍ طويل, « النبي الأمي « يعني النبي المبعوث من غير بني اسرائيل)( في السيرة النبوية / د . هشام جعيط: 1 / 43)، وعلّل ذلك بما كان لبني اسرائيل من مفاهيم وتقاليد في وصف غيرهم، حين قال: ( ولكلمة « أميّ «و» أمييّن» مقابل بالعبرية, وهي «أمُم عُلاَم» أي أمم العالمين من غير بني اسرائيل، وكان اليهود يميّزون بينهم وبين الآخرين، والمفهوم ديني وعرقي في آنٍ)( م . ن)، إذاً كان الأميون ليسوا ممن يجهل القراءة والكتابة، فقد نَقَلت المصادر أنّ هناك من كان يقرأ ويكتُب, والدليل على ذلك عندما أَسَرَ المسلمون مجموعةً من قريش في بدر جعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فداءهم أن يعلّم كلٌّ أسير منهم عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة .
غير أنَّ أغلب العرب كان يخفيها ولعلّ السبب في ذلك يعود الى أنّهم كانوا يُعيبون على مَنْ يقرأ ويكتب وخاصة من الشعراء إذ (كانوا يتوهمون أنّ معرفة الشاعر بالكتابة عيب ينقص من شاعريته وذلك لأنهم كانوا يظنون أنّ معرفة الكتابة أمرٌ حادثٌ طاريءٌ على العرب وهو من الأمور المدنية التي كانت تفسد الأعراب سليقتهم اللغوية الفطرية)( مصادر الشعر الجاهلي / د . ناصر الدين الاسد: 76)، ومن مظاهر هذه الحالة ما نقله ابن قتيبة ( ت 276هـ ) عن ذي الرُّمة من شاهد وقد عِيبَ عليه بمعرفته الكتابة فأنكرها ذو الرُّمة إذ يقول: (وقال عيسىَ بن عمر: قال لي ذو الرُّمة: ارفع هذا الحرف، فقلت له: أتكتب ؟ فقال بيده على فيه، أي: اكتُم عليَّ: فأنّهُ عندنا عيب!) (الشعر والشعراء / ابن قتيبة: 1 / 55)، غير أنّ هذا لم يكن مانعاً من تعلّم القراءة والكتابة، بل كان هناك كُتّابٌ من الشعراء وغير الشعراء، وقد عثر الدكتور ناصر الدين الأسد على مجموعة من شعراء الجاهلية كانوا يكتبون، منهم: زيد بن عدي العبادي، ولقيط بن يعمر الإيادي، والمرقّش وأخوه حرملة، ومن شعراء المدينة سويد بن صامت الأوسي وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك الأنصاري، ومن الشعراء كذلك الربيع بن زياد العبسي، وكان هو وأخوته من الكَمَلة، وأنّ من صفات الكامل في الجاهلية أن يُحسن الكتابة وكذلك كعب بن زهير وأخوه بجير، ولبيد بن ربيعة العامري(ظ: مصادر الشعر الجاهلي: د . ناصر الدين الأسد: 114 – 115).
إذاً، لم تكن الأميةُ (بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة متفشية عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، بل هناك كثيرٌ منهم يحسنها ويُجيدها غير أنّ مسألة العيب هي التي غلّبت ذلك عليهم، ولعلّ ما ذُكر من آيات في الأميّ والأميّة لم يكن يحتمل الجهل بالقراءة والكتابة، كما ويُردُّ على مَنْ قال أن لفظة الأميّ والأميّين من الألفاظ المعرَّبة بادّعائهم أن لا أصل لها في اللغة العربية(ظ: مدخل الى القرآن الكريم / د . محمد عابد الجابري: 82 – 83)، بل هو لفظ عربيّ يعني الأصل والمرجع والجماعة والدين(ظ: مقاييس اللفة / ابن فارس: 31 – أم)، وهذه المعاني تشترك في الرجوع الى أصالة الشيء، ولماّ كان (الأميّ الذي على خلقة الأمّة لم يتعلّم الكتاب فهو على جبلة أمّه، أي لا يكتب، فكأنّه نُسب الى ما يُولد عليه أي على ما ولدته أمّه عليه)( لسان العرب / ابن منظور: 1 / – أم)، بمعنى أنّ لفظ الأميّ قد تطوّر عن أصل وضعه الى معاني أخرى تشترك مع الأصول العامة في أصل الوضع، وأن ورود معانٍ ودلالات أخرى في بعض اللغات السامية لا يخدش عروبة هذه اللفظة والادّعاء على أنّها أعجمية(كانت لقضية عروبة الألفاظ وعجمتها في القرآن الكريم مثار طعنٍ لكثير من المستشرقين، وقد تناولت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتابي ( إشكالية فهم النصّ القرآني عند المستشرقين: 211 – 262 فراجع ذلك ) .

نشرت في الولاية العدد 108

مقالات ذات صله