الإمام الباقر «عليه السلام»

فاروق ابو العبرة

هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة والسلام، الملقب ب(الباقر) وهو خامس الأئمة المعصومين عليهم السلام.
امتدت مرحلة إمامته(19)عاماً من (95)هـ إلى سنة استشهاده بإيعاز من هشام بن عبد الملك الذي دس إليه السم سنة(114)هـ، وكان عمره الشريف(57) عاماً.
كان من الحاضرين بمعركة الطف بكربلاء، وسار مأسوراً مع الركب الحسيني الذي عانى الأمرّين، بعث إليه رسول الله(صلى الله عليه واله) سلامه بوساطة جابر بن عبد الله الأنصاري دون سواه من أبناء النبي(صلى الله عليه واله).
عُرف بغزارة علمه من خلال الدروس التي كان يلقيها بمسجد جده رسول الله(صلى الله عليه واله)، ترأس الشيعة الذين صار لهم وجود بعد انحسارهم لسنوات على أثر حوادث الطف والتوابين والحرّة، فأصبحت رابطة أتباع أهل البيت(عليهم السلام)تستطيع أن تعبّر عن وجودها بتشكيلات في عهده، فتلك الأيام ولّت من قلة الشيعة التي وصف الامام السجاد(عليه السلام) قلّتها أن اتباعه عشرون شخصاً في الحجاز.
لقد حمل الإمام الباقر(عليه السلام) إرث العلم والقيادة الفكرية ومسؤولية نشر بذور المعارف الإسلامية في المجتمع، وكان يحافظ عليها كي تثمر من أجل القضاء على الشبهات التي كانت تعترض الناس وتؤثر في عقائدهم.
فكان أول همّ له إشاعة مذهب التشيع في أرجاء الأرض، وانتشال المسلمين من الواقع المؤلم الذي حلّ بالبلاد الاسلامية وبعقول العامة كيف أنهم بمرور الأيام انخرطوا مع جماعة المفسدين وانغمسوا في التيار الذي يناهض الإسلام.

علماء في خدمة السلاطين
الحالة التي جعلت الحكام يمسكوا بزمام السلطة أكثر – على الرغم من أنهم غير جديرين- هم مجموعة المرتشين من العلماء والفقهاء والمحدثين الذين أسسوا في الأمة الإسلامية ظلماً وفسقاً وفجوراً وفساداً، فهؤلاء مدعو التدين صاروا في خدمة خلفاء الجور، فمثلاً من فتواهم (أنه يحق لأي شخص الإستيلاء على السلطة بالمكر والخداع والحيلة والسيطرة بالقوة والقهر والسيف، فيحكم المسلمين بعنوان أولي الأمر فتجب طاعته) فمثل هذه الافتراءات التي لا يقبلها العقل فتحت أبواب التحريف في الدين، يلقنونها الناس من أجل تلبية أماني ورغبات الحكام. والحكام بدورهم اغتنموا الفرصة في شراء ذمم هؤلاء، فكانوا يصحبونهم في محافلهم واجتماعاتهم، ويعرضونهم أمام الناس وسيلة تأييد لكفرهم ومن المحزن إلى الآن ان كثيرا من المسلمين من دون تدقيق لا يزالون تحت وطأة أفكار هذه الطغمة فتشكلت الذهنية العامة على هذا الأساس، وهذه الثقافة الخاطئة هي التي جعلت حكم الحكومات الفاسدة تدوم لقرون.
المهمة الصعبة
هذا الواقع المتهرئ واجهه الإمام الباقر عليه السلام، ولكن كيف السبيل لإنتزاع تلك الثقافة وتبديل تلك العقلية إلى ثقافة قرآنية إسلامية، فتطلب الموقف اختيار المنهج الجهادي لإرساء قواعد الحكومة الإلهية، مستغلاً ظروف بعض الأيام، الآمنة من مطاردة خلفاء بني أمية، فأتيحت له فرصة تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وتميزت فترة باحياء تراث آل البيت عليهم السلام.
فاكثر من دروسه في الفقه وفتح باب علم الأصول والكلام والحديث والتفسير والاقتصاد وجميع الطرائق القرآنية وحقائق العلوم الإسلامية، فكل من حضر دروسه كان يفخر به كمعلم ومربي، لينظوي تحت لواء إمامته، وهو الذي أشار على عبد الملك بن مروان أن يسك عملة خاصة بالدولة الإسلامية بعدما كانوا يتداولون العملة الرومانية.
وأهم ما قام به عليه السلام في عهده أنه جهز من تلامذته وكلاء بثهم في الولايات ليتحملوا أعباء التبليغ والتحدث إلى الناس وأن لا يقعوا فريسة تحت إلقاءات العدو وأحاديثهم المزورة.
وكان هذا العمل شديد الخطورة، إذ أن جهاز الحكم كان يقمع تحركاتهم ويلاحقهم ويعرضهم لألوان العذاب، فهذه التشكيلات طفقت تعمل بسرية تامة من عهد الإمام السجاد عليه السلام وتطورت في زمن الإمام الباقر عليه السلام، وامتدت كتنظيمات وأخذت بالاتساع حتى وصلت أوجها في عهدي الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام.

وضع المراقبة الذي عاشه الإمام الباقر عليه السلام
أزلام نظام بني أمية صارت تراقب الامام الباقر عليه السلام وتلحظ تجمعاته العلمية، فعمدوا إلى ممارسة التضييق والإذلال والانتقاص منه، فعاش المرارة وكانت لا تفارق محياه على ما يلقاه من جهاز حكمهم البغيض الذي يقمع أي صوت ينادي بحقوق الناس أو يريد أن يرفع عنهم حيفا أو ظلما.
نعم كان وضع الناس مأساوياً جراء الإحباط من تصرفات الحكام ومن الانحطاط الفكري الذي أصاب المجتمع، فقد قال الإمام الباقر عليه السلام:(إن دعوناهم فلم يستجيبوا لنا ) وقال:(وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا) فهذه صورة من الضياع، ولولا من نهض من الشيعة لنجدة من به أمل لأغلق على الناس باب الهداية كلياً، لأن القوى الفكرية المعادية احدثت شبها في الأذهان ما لا يستطيع أحد معها إحداث يقظة أبداً.
فالإمام كان يستغل كل فرصة لتحريك المشاعر وتنبيه العواطف إلى الألم وألوان العذاب والضغط الذي كان يمارس من قبل قوى السلطة بحق الشيعة وإمامهم، فيهز قلوبهم الغافلة، وأجاب الإمام عليه السلام رجلاً سأله كيف أصبحت يابن رسول الله(صلى الله عليه واله) فقال عليه السلام: (أوما آن لكم أن تعلموا كيف نحن، إنما مثلنا في هذه الإمة مثل بني إسرائيل كان يذبح أبناؤهم ويستحي نساؤهم، الا وأن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا)(1)، فقال الرجل: والله إني لأحبكم أهل البيت(عليهم السلام) قال: فإتخذ للبلاء جلباباً، فو الله إنه أسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء ثم بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثم بكم)(2)، وبطريق الشهادة هذا قتل سعيد بن جبير على يد الحجاج والي الخليفة الأموي، فمن شدة خوف الإمام على أصحابه من أساليب الترهيب التي تتخذ ضدهم عمد إلى إخفائهم، فكان يزودهم بالمعلومات ويعرفهم الأوضاع دفاعاً عنهم، فمثلاً جعل جابر الجعفي يدعي الجنون ليتقي القتل.
وبالمقابل كان العدو يسارع إلى كل من يتقرب بالودّ والمحبة والميل إلى الأئمة، بالأذى والقتل فهذه صورة مبسطة من حجم المعاناة التي كانت تحيط بالشيعة وأئمتهم آنذاك.

إغتيال الإمام الباقر عليه السلام
تقية الإمام الباقر عليه السلام وقمع جهاز الحكم سببا قلة أصحابه الذين ينقلون تراثهم العلمي والمعرفي للشيعة، وتبعاً لذلك قلت الأنشطة الواردة إلينا من الإمام عليه السلام، فالمصائب التي كانت تداهمه في أواخر حياته كثيرة منها انه أحضر من المدينة إلى الشام بأمر من هشام بن عبد الملك مع ولده الإمام الصادق عليه السلام، لأجل التنكيل به والحط من مقامه في مجلسه، إلا أن الإمام عليه السلام بعد أن سمع كلمات هشام النابية وكلمات المأجورين ممن حضر قال عليه السلام:(أيها الناس أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً وليس بعد ملكنا ملك، لأننا أهل العاقبة، يقول الله عز وجل والعاقبة للمتقين).
على أثر هذه الحادثة والحوادث التي كانوا ينعتوه فيها بالإرتداد عن الإسلام ليسوغوا لأنفسهم قتله، أودعوه السجن، فكانت للإمام فرصة إرشاد السجناء، ووصل الخبر إلى هشام أن الموقف بالنسبة إلى جهاز الحكم أصبح حرجاً من جراء وعظ الإمام عليه السلام، فأمر بارجاعهم فوراً إلى المدينة والتضييق عليهما في الطريق وأن لا يبيعهم الناس من حاجات الطعام وغيره.
وسُئل عليه السلام في أواخر أيامه عن القائم بعده فوضع يده على كتف أبي عبد لله الصادق عليه السلام وقال: إن هذا هو قائم آل محمد .
وعلِّم الإمام عليه السلام أنه سوف يُدس إليه السم، فأوصى إبنه الإمام الصادق عليه السلام أن يقيم من أجله بعد موته النياحة والعزاء لمدة عشر سنوات، في أرض منى في وقت موسم الحج، لإمكانية إجتماع الناس هناك، وتلك أنسب فرصة لإيصال قضية ما جرى على أبيه الإمام عليه السلام إلى جميع الحاضرين عند رجوعهم إلى أرجاء العالم الإسلامي وفعلاً تمت تصفيته عليه السلام في سنة(114)هـ ودفن في البقيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- بحار الأنوار: 46/258.
2- الأمالي للطوسي:154.

نشرت في الولاية العدد 117

مقالات ذات صله