شخصية الإمام علي(عليه السلام) الفكرية

الشيخ عبد الهادي الفضلي

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) النموذج الحضاري المتميز من بين سائر أصحاب النبي (صلى الله عليه و آله) و تلامذة مدرسته الفكرية. و يرجع هذا إلى ما توافر له (عليه السلام) من عوامل شاركت متكاملة في شخصيته الفكرية، و هي:
1. العامل الذاتي: و أريد به أنّه (عليه السلام) ولد مزودًا بمؤهلات ذهنية ارتفعت به إلى مستوى العبقرية التي هي فوق الذكاء المتفوّق. و يعود هذا إلى أنّ الله تعالى أراد بذلك إعداده لحمل الرسالة و تحمل مسؤولياتها بعد النبي (صلى الله عليه و آله) و نستطيع أن ندرك هذا مما أعطاه من فكر و مما قام به من اعمال وهو في معرض إرساء أسس الحضارة الإسلامية، كما سنشير إلى شيء منها.
إنّ هذا لا يتأتى إلاّ ممن وعى مسؤولية القائد الرسالي وعيًا حيًّا و وضع أمامه و نصب عينيه تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية، و من أهمها أن يكون لها شخصيتها الخاصة و المميزة لها عمّا سواها ليرتفع مستوى الأمّة الإسلامية بوساطة هذه الحضارة إلى ما أراده الله تعالى للمسلمين بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…).
ذلك أنّ الحضارة السامقة هي القادرة على تكوين هذه الأمّة، و قد رأينا ـ تأريخيًا ـ تسابق المؤهلين ذهنيًا إلى الإسهام في إنمائها و إثرائها، تكوين الأمّة، و قد تكامل هذا بمدة وجيزة من الزمن كانت رقمًا قياسيًا في عوالم بناء الحضارات و تكوين الأمم.
2. العامل التربوي: و أعني به ما تهيأ للإمام علي (عليه السلام) من جوّ تربوي في ظل توجيهات و تعليمات رسول الله (صلى الله عليه و آله)، والإمام علي يسجل هذا بقوله (عليه السلام): (ولقد كنتُ أتبعه (يعني رسول الله (صلى الله عليه و آله) إتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كُلّ يوم من أخلاقه علمًا، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاوز في كُلّ سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه و آله) و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة، و أشمّ ريح النبوة، و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه و آله)، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟
فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي، و لكنك لوزير، و إنّك لعلى خير).(نهج البلاغة:ج2/158)
و يدخل في هذا الإطار ما عرف من أنّ النبي (صلى الله عليه و آله) كان قد أملى على الإمام (عليه السلام) ما أُطلق عليه عنوان (كتاب علي)، و كتبه بخطه الشريف من فم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و روي عن إبراهيم بن هشام بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر (عليهم السلام) أنّه قال: (في كتاب علي كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش)(بصائر الدرجات: 1/168).
إنّ هذا اللون من التربية خلق عند الإمام الذهنية العلمية المبدعة التي أعطت ـ فيما بعد ـ العطاء الخير الذي أشرت إليه في أعلاه.
على ذلك الأساس من تحمل الإمام (عليه السلام) هذه المسؤولية الضخمة، و من وعيه لأهمية تطبيقها، بوساطة إدراكه لأهمية ما تهدف إليه من تأسيس حضارة إسلامية تتكون في أجوائها و داخل أطرها الأمّة الإسلامية القائدة انطلق الإمام (عليه السلام) يضع القواعد و الأسس للعلوم الإسلامية و العلوم الأخرى المساعدة لها، و تمثلت هذه في البداية بالآتي:
علم العقيدة: و هو العلم الذي عُرف بـ (علم التوحيد)، و التوحيد في الحضارة الإسلامية أساس العقيدة، تلك العقيدة التي تعطي الفكرة الإسلامية عن نشوء الكون و تطوراته و نهايته.
و بتعبير أخصّ: تعطينا الفكرة عن المبدأ و المعاد.
و العقيدة هذه بتفاصيلها و حدودها هي أساس التشريع الإسلامي، منها ينشقّ و عليها يقوم، ذلك التشريع الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم في كُلّ مفرداتها و جزئياتها، و جميع أطوارها و أدوارها.
و أيضًا العقيدة الإسلامية هي التي ترسم و تحدد الإطار الذهني للإنسان المسلم الذي بوساطته يفكر، و في هدي معطياته يرى مرئياته.
و قد رأينا الإمام (عليه السلام) يبدأ بالتوحيد ليضع اللبنات الأساس لهذا الفكر العقيدي، و في كتاب (نهج البلاغة) الكثير من هذا، الخطبة الأولى فيه تضع لنا التوحيد في موضعه كأساس للعقيدة الإسلامية، و لذا بدأ (عليه السلام) به ثُمّ انتقل من بعده إلى بيان كيفية خلق الكون بعوالمه المختلفة، و بيان بعث الأنبياء و إرسال الرسل و تشريع الأحكام.
و تجد الحديث عن التوحيد في المقطع الأول من خطبته المشار إليها، قال (عليه السلام): (أوّل الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه… إلخ).
و في الخطبة نفسها يربط التشريع بالعقيدة لأنها الإطار الفكري له ليرينا تسلسل الفكر الحضاري الإسلامي، قال (عليه السلام): (إلى أن بعث الله سبحانه محمدًا رسول الله (صلى الله عليه و آله) لإنجاز عدته و إتمام نبوته.. ثُمّ اختار سبحانه لمحمد (صلى الله عليه و آله) لقاءه.. و خلّف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، و لا علم قائم، كتاب ربكم فيكم مبيّنًا حلاله و حرامه و فرائضه و فضائله).
و كان التشريع الإسلامي موجودًا عند الإمام (عليه السلام) و عند من بعده من الأئمة (عليه السلام) من ذريته كاملاً لا نقص فيه، متمثلاً في (كتاب علي)، والذي ذكرت الرواية أنّ فيه كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش.
و نلمس هذا واضحًا في وفرة النصوص الشرعية عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بالكمية التي غطت جميع ما يحتاج إليه الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الشرعية بحيث لم يعد الفقيه بحاجة لغير الكتاب و السنة من مصادر أخرى.
و في الوثيقة التالية من كلام الإمام (عليه السلام) يضع الإمام المنهج في فهم القرآن الكريم و طريقة الجمع الدلالي بين مدلولاته، و تقسيم رواة الحديث و طريقة تقويمهم، و هي: (إنّ في أيدي الناس حقًّا و باطلاً، و صدقًا و كذبًا، و ناسخًا و منسوخًا، و عامًّا و خاصًّا، و محكمًا و متشابهًا، و حفظًا و وهمًا، و لقد كُذب على رسول الله (صلى الله عليه و آله) على عهده حتى قام خطيبًا، فقال: و من كذب علي متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار.
و إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس.
1ـ رجل منافق، مُظهر للإيمان، متصنِّع بالإسلام، لا يتأثم و لا يتحرّج، يكذب على رسول الله (صلى الله عليه و آله) متعمدًا، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، و لم يصدقوا قوله، و لكنهم قالوا: صاحب رسول الله (صلى الله عليه و آله) رآه و سمع منه، و لقف عنه، فيأخذون بقوله، و قد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، و وصفهم بما وصفهم به لك، ثُمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار بالزور و البهتان، فولوهم الاعمال، و جعلوهم حكامًا على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، و إنما الناس مع الملوك و الدنيا إلاّ من عصم، فهذا أحد الأربعة.
2ـ و رجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، و لم يتعمّد كذبًا فهو في يديه، و يرويه و يعمل به، و يقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه و آله) فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوه منه، و لو علم هو أنّه كذلك لرفضه.
3ـ و رجل ثالث، سمع من رسول الله (صلى الله عليه و آله) شيئًا يأمر به، ثُمّ أنّه نهى عنه، و هو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء، ثُمّ أمر به و هو لا يعلم، فحفظ المنسوخ و لم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
4ـ و آخر رابع لم يكذب على الله و لا على رسوله، مبغض للكذب خوفًا من الله، و تعظيمًا لرسول الله (صلى الله عليه و آله) و لم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه و لم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، و حفظ المنسوخ فجنب عنه، و عرف الخاص و العام، و المحكم و المتشابه، فوضع كُلّ شيء موضعه.
وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه و آله) الكلام له وجهان: فكلام خاص و كلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله ـ سبحانه ـ به، و لا ما عنى رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيحمله السامع و يوجهه على غير معرفة بمعناه، و ما قُصد به، و ما خرج من أجله.
و ليس كُلّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) من كان يسأله و يستفهمه، حتى أنهم كانوا يحبون أن يجيء الأعرابي و الطارئ فيسأله (عليه السلام) حتى يسمعوا، و كان لا يمر بي من ذلك شيء إلاّ سألته عنه و حفظته منه.
فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم و عللهم في رواياتهم)(نهج البلاغة).
إنّ هذه الوثيقة العلمية وضعت أسس علمي الرجال و الحديث، مستخلصة من واقع الرواة من الصحابة، وبوساطة ما نسميه الآن بالدراسة الميدانية، و هذه الدراسة ألصق بالواقع و أصدق تعبيرًا عنه.
إلى هنا تعرفنا على قيام الإمام علي بالتأسيس لعلم التوحيد (علم العقيدة) و لعلم التشريع (علم الفقه)، و لعلمي الرواية و الرواة (علم الحديث و علم الرجال) و ذلك بوساطة النماذج و الوثائق التي مرّ عرضها.
و الآن نعرض لقيامه بتأسيس العلوم المساعدة للعلوم الشرعية، و نأخذ شاهدًا لذلك علم النحو العربي، ذلكم العلم الذي يتدخل و بشكل مباشر في فهم النص الشرعي لأنّه يدرس نظام الجملة العربية و وظيفة الكلمة العربية في منظومة الجملة العربية.
علم النحو العربي: قال السيوطي: (أوّل من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي، وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه)(شرح احقاق الحق: 8/10).
و قال البغدادي: (و هو (يعني أبا الأسود) واضع علم النحو بتعليم علي (عليه السلام).
و أخيرًا:
هذه إلمامة تأريخية تشير إلى دور الإمام علي في إرساء أسس الثقافة الإسلامية، تضع أمام من يريد البحث في ذلك و الكتابة فيه بشكل مفصل و مطوّل الصور المصغرة لذلك.
و لنختم حديثنا المختصر بكلام ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة في مقدمة شرحه و هو في معرض الإشارة إلى هذا، قال: (و ما أقول في رجل تُعزى إليه كُلّ فضيلة، و تنتهي إليه كُلّ فرقة، و تتجاذبه كُلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها، و أبو عذرها، و سابق مضمارها، و مجلي جلتها، كُلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، و إياه اقتفى، و على مثاله احتذى، و قد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم، و من كلامه (عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، و إليه انتهى، و منه ابتدأ، فإنّ المعتزلة الذي هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته و أصحابه لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، و أبو هاشم تلميذ أبيه، و أبو ه تلميذه (عليه السلام).
و أمّا الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، و هو تلميذ أبي علي الجبائي، و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون ـ بآخره ـ إلى أستاذ المعتزلة و معلمهم و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
و أمّا الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.
و من العلوم: علم الفقه، و هو (عليه السلام) أصله و أساسه، و كُلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه:
أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد (بن الحسن الشيباني) و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة.
وأمّا الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن (الشيباني) فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة.
وأمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة، و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد (عليه السلام) و قرأ جعفر على أبيه (عليه السلام) و ينتهي الأمر إلى علي (عليه السلام).
و أمّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي، و قرأ ربيعة على عكرمة، و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، و قرأ عبد الله بن عباس على علي (عليه السلام). و إن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة. و أمّا فقه الشيعة فرجعوه إليه ظاهر.
و أيضًا فإنّ فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس، و كلاهما أخذا عن علي (عليه السلام)، أمّا ابن عباس فظاهر، و أمّا عمر فقد عرف كُلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة، و قوله غير مرة: (لولا علي لهلك عمر)، و قوله: (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، و قوله: (لا يفتين أحد في المجلس و علي حاضر)، فقد عرف بهذا الوجه أيضًا انتهاء الفقه إليه.
و من العلوم: علم تفسير القرآن، و عنه أُخذ، و منه فُرع، و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأنّ أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس، و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه و خريجه.. الخ)(شرح نهج البلاغة:1/19).

نشرت في الولاية العدد 128

مقالات ذات صله