فرائدٌ من حياة أمير المؤمنين عليه السلام

حمود الصراف

مهما تباعد الزمن إلى الوراء يبقى شعاعك سيدي يا أمير المؤمنين منارا تستضيء به الأمم والشعوب على مدى الدهر لتستفيق إلى ألق الحياة الحرة الكريمة، بأصولها الواضحة التي استمدها من فيوضات المختار رسول الله صفوة الجبار ذي المعجزات الباهرة.. عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام) كتاب الله الناطق وصراطه المستقيم.. نتصفح منهاجك سيدي لنبصر شذرات الإبداع تتوالى، فتتسامى الروح لسبل الإيمان والأمان ولتنجلي الظلمات والخنوع، وتتلاشى زفرات الشيطان ويوقظ النور في الضمائر ولتبصر سبل الإيمان والتوحيد، ويفزُّ فجرٌ جديد عهد تقادح في المدى ارتوى من منبعٍ خصب وطيّب من نعمة الله العظيمة لينهض الوجود في أبهى صورة ففم النور يرتل المحكمات مقشعا الضلالة من أصولها.

عشت مظلوماً في أمّة لاتفقه إلا لغة الغاب وتفترش الوهن والخنوع عمت أبصارها، فاستحوذ عليها الشيطان، فتغلغل فيهم، خوى فانطوى وعاق عن النور، فخلع الضمير، واستبدّ على نفسه، فهوى وانكوى ممّا التوى، بجزعه وتيهانه في سراب الجهل والظلام.
لقد كان (عليه السلام) في هذا الوسط التائه في الضلالة والعمى وحيداً يصارعه، لينمي أساسات النور إلى مستقبل مشرق وواقع يحاكي ما بذر، فإلى مداك الواسع تتهافت الأفئدة الحيّة والمحبة للنور والإصلاح لتنهض وتعيش الإنسانية.
سلوني قبل أن تفقدوني، ما قالها شخص إلا أمير المؤمنين (عليه السلام). فعن الأصبغ بن نباتة، قال: لما جلس علي(عليه السلام) في الخلافة وبايعه الناس، خرج إلى المسجد متعمّماً بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لابساً بردة رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتعلاً نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، متقلداً سيف رسول الله(صلى الله عليه وآله) فصعد المنبر، فجلس عليه متمكناً، ثم شبك بين أصابعه، فوضعها أسفل بطنه، ثم قال: يا معشر الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، هذا ما زقّني رسول الله (صلى الله عليه وآله) زقا زقا، سلوني فإنّ عندي علم الأولين والآخرين، أمّا والله لو ثنيت لي الوسادة، فجلست عليها، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: «صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله في»، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل ..إلى أن يقول(عليه السلام): سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن آية آية، في ليل نزلت، أم في نهار، مكيّها ومدنيّها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، إلا أخبرتكم.
فقام إليه رجل يقال له ذعلب، وكان ذرب اللسان، بليغا في الخطب، شجاع القلب، فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إيّاه.
فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربك؟ ، فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره، قال: فكيف رأيته؟ صفه لنا، قال: ويلك! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب، إن ربّي لا يُوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام – قيام انتصاب – ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعِظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسة، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كل شيء ولا يقال له أمام ، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج…..وقال: أيها الناس، إنّما الناس ثلاثة: زاهد، و راغب، وصابر، فأما الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه، ولا يحزن على شيء منها فاته، وأما الصابر فيتمناها بقلبه، فإن أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها، وأما الراغب فلا يبالي من حلّ أصابها أم من حرام(الامالي:433)
ومن درره في ظلاماته: قال عليه السلام: فأنا أول من آمن به، قال السيد الرضي: كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يحدث يوماً بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فنظر بعض القوم إلى بعض، فقال(عليه السلام): (ما زلت مذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مظلوماً، وقد بلغني مع ذلك أنكم تقولون أنّي أكذب عليه! ويلكم أتروني أكذب؟! فعلى من أكذب؟! أعلى الله؟! فأنا أول من آمن به، أم على رسوله؟! فأنا أول من صدقه..)(حياة أمير المؤمنين:22)
وفي غصبه من الخلافة التي أقرّها الله ورسوله فكان موضّحاً صبره على ما آل إليه القوم وذلك في خطبة له والمعروفة بالشقشقية:( أما والله لقد تقمّصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهباً(نهج البلاغة:ج32/ص1).
الرجل الذي ما عرفه الا الله ورسوله وما عرفاه سواهما.. واكمل قول ما قاله رسول الله (صلى الله عليه واله) في منزلته:
(معاشر الناس من أحسن من الله قيلا وأصدق منه حديثا؟ معاشر الناس إنّ ربّكم جلّ جلاله أمرني أن أقيم لكم عليّاً علماً وإماماً وخليفة ووصيّاً وأن أتخذه أخاً ووزيراً، معاشر الناس إن عليّاً باب الهدى بعدي والداعي إلى ربي، وهو صالح المؤمنين، (ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاًوقال: إنّني من المسلمين) معاشر الناس إن عليّاً منّي، ولده ولدي، وهو زوج حبيبتي، أمره أمري ونهيه نهيي، معاشر الناس عليكم بطاعته واجتناب معصيته، فإنّ طاعته طاعتي ومعصيته معصيتي، معاشر الناس إن عليا صديق هذه الأمة وفاروقها ومحدثها، إنه هارونها ويوشعها وآصفها وشمعونها، إنّه باب حطتها وسفينة نجاتها، إنه طالوتها وذو قرنيها، معاشر الناس إنه محنة الورى والحجة العظمى والآية الكبرى وإمام أهل الدنيا والعروة الوثقى، معاشر الناس إن عليا مع الحق والحق معه وعلى لسانه، معاشر الناس إن عليا قسيم النار لا يدخل النار ولي له ولا ينجو منها عدو له، وإنه قسيم الجنة لا يدخلها عدو له ولا يزحزح عنها ولي له، معاشر أصحابي قد نصحت لكم وبلغتكم رسالة ربي ولكن لا تحبون الناصحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.)(روضة الواعظين:100)
كيف تعبر عن شخصية هكذا تتحدث عمن قتلها: روي أن ابن ملجم أتى الكوفة لقتل علي (عليه السلام) فعرف أمره وجاؤوا به إلى علي فقيل له إنه يريد قتلك، فقال علي(عليه السلام) لا أقتله قبل أن يقتلني.
لما ضرب الملعون عليا (عليه السلام) وقبض عليه أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإحسان إليه، وقال( إن برئت فأنا أولى بأمري وإن مت فلا تمثلوا به.(جواهر الكلام:332)

نشرت في الولاية العدد 128

مقالات ذات صله