القدر يزحف أيضا (قصة قصيرة)

Awesome-Abstract-Art-Wallpaper-In-HD

فائق الشمري

كعادتها في كل يوم.. الشوارع، الأسواق، الدكاكين ازدحمت بالمارة، عالم ملوّن من الأمنيات والرغبات، عالم لايتوقف عن الجري، يجري الجميع، يهرول وربما آخرون يركضون، وبعض يزحف..!
الحمائم تحلق عاليا في كبد السماء تدور وتدور، ترمق الأرض، يداعب الهواء ريشها الناعم كنعومة الرخام الذي اتجهت إليه، تتزاحم بقلق مع زميلاتها وهي تلتقط الحب المتناثر هنا وهناك، وماهي إلا لحظات حتى تخفق بجناحيها بسرعة؛ لترتفع عاليا بعد شعورها بالخوف من أقدام المارة..
في مكان لا يبعد كثيرا عن الأرضية الناعمة كان يجر قدميه بصعوبة من التعب، يضرب الأرض بيديه، يرفع جسمه وينقله للأمام مسرعا بحركة اعتاد عليها أثناء تنقله، أحس بالخدر يدب في يديه وتمنى لو أن رجليه تعيناه، لاجتاز الشارع مسرعا وتوارى في أحد أزقة المدينة الملتوية..
ـ قف قف أيها الحقير.. ردد الحارس بكرشه المتهدل تلك الكلمات وانطلق خلف المتسول مطاردا إياه، كان الاخير يلقف شهيقه بصعوبة، وكادت أنفاسه تتوقف، وصدم بدخوله زقاقا ذا نهاية مسدودة، ابتسمت كتلة اللحم الغاضبة بمكر، وقال:
ـ أخيرا ظفرت بك، أنا قادم..
تراجع المتسول زاحفا يجر أسماله وهو يتوارى بالظل الضخم الذي بدأ بالتهامه، صرخ بفزع:
ـ لا، لا، أرجوك..
ـ كم مرة حذرتك من التسول هنا..
قالها بعد أن رفس ذا القدمين الذائبتين بعدة ضربات قوية في أماكن مختلفة من جسمه ثم انصرف مزهوا بانتصاره.. بعد ان نثر بصاقه فوق الجسد المسجى.
بعد تلك الرفسات، أنَّ المتسول من الألم، وانفجر صوت هائل بأذنيه، ابيضت عيناه ودار رأسه بما حوله، وأحس برغبة شديدة بالاستلقاء والنوم.. لم يرغب إلا بالنوم.. النوم..
ـ أريد أن ارتاح.. أنام..
((رفع رأسه، تلفَّت حواليه، كان وحيدا، أرض من الرخام الأبيض على أمتداد البصر، فرك عينيه، حاول أن يميز الأرض من السماء، كان النقطة الغامقة الوحيدة في ذلك المكان، بكى على حظه العاثر.. وحيدا كحاله دوما، كره البكاء وأراد أن يمنع عينيه من ذلك، أغلقهما دون جدوى، وحينما عاود التحديق فيما حوله لمح بطرف عينه هالة كبيرة، يشتد بياضها كلما اقتربت أكثر، غمره النور من جميع الاتجاهات، حاول الهرب، استجمع قواه، زحف، انزلق في جميع المحاولات ولم تنجح يداه بسحب ذوائبه..!
الجسد الأبيض توسط تلك الهالة وبكلمات دافئة قال:
ـ تعال يا ولدي اقترب لا تخف..
ـ لكن سيدي..
ـ قلت اقترب
ـ ياإلهي..!
ـ لا عليك لا عليك، رددها ذو الوجه الملائكي وهو يبتسم ثم مدَّ يداً حريرية مسح بها فخذي المتسول وقدميه، فأنسابت الدماء تدب رويدا نحو الأسفل، فأحس بالدفء يورق أطرافه ووجد قدميه ترتعشان، انتفض من مكانه غير مصدق لما يراه صارخا:
ـ رجلاي، يتحركان، ياإلهي، أنا لاأصدق..!
ضغط بشدة وهو يلف يديه حول ذلك الرجل، وكالأطفال دار معه بفرح، تركه، جرى بسرعة، قفز أمام المارة، تدافع معهم ولامست أكتافه أكتافهم، يتوقف رافعا يده معتذرا بفم باسم ثم يعاود الجري من جديد، يردد أنشودته فرحا وهو يتنقل هنا وهناك بين الشوارع والأزقة:
(حديِّب ديّب، ناصر طيِّب، شد الكورة، عل الزنبورة، يا أيدي، دليني على الخوخ والعنب والتين..)
امتلأت الشوارع بسلال العنب والتين والخوخ، طعام طعام في كل مكان، كان ينشد ويتنقل بفرح يأخذ قضمة من هنا وأخرى من هناك..))
استيقظ من رقدته، كان غارقا بغيبوبة امتدت منذ تلك الرفسات وحتى دوت ساعة المئذنة في أذنيه بدقاتها العشر معلنة انقضاء عشر ساعات من المساء، زحزح نفسه فأحس بثقل جسده وألم عظامه.. لعن قدره، الزحف كخرقة، التسول واستجداء المارة، بقايا طعام، كسرة خبز، قطع نقدية صغيرة يرميها البعض ويمضي.. لايستطيعون حتى النظر إليه، ولا يريد البعض ان يعلم بوجوده، وحينما ينظر إليهم ويصرخ:
ـ هوه.. هيه.. أنا هنا..
ينظرون بامتعاض، ويواصلون مسيرهم..!
وذلك الرجل الغاضب، ماذا سيقول له، لم يحصل على شئ اليوم، ولن يتخلص من سؤاله المعتاد:
ـ أين النقود.. لماذا هي قليلة..؟
تساءل مع نفسه:
ـ هل اذهب اليه..؟ هل أكون شجاعا ولو لمرة واحدة بحياتي..؟ وان طالبني بالنقود اصرخ بوجهه:
ـ أنت سيأتي اليوم الذي تتشرد فيه مثلي، حين يغزوك الشيب ويوهن عظمك وتصبح حقيرا كالذباب الذي يطاردني، حينها سيطردونك من الغرفة النتنة التي قتلتَ بها أمي، ولن تجد غير الرصيف مأوى، عندئذ لن اسمح لك بالجلوس معي على الرصيف ولن أقاسمك طعامي.. لأني، لأني لن أخافك بعدها، فأنت لاتقوى حينها على سحق قملة من تلك التي تملأ جسمك.
فجأة توقف عن هذيانه، ثم تساءل مع نفسه ثانية:
ـ هل استطيع تحمل عواقب كلامي..؟ أطأطئ رأسي، واصمت بترقب، أحدق بذلك الجسد الماموثي، أتفحص معالمه أبدأ من الأرض، الأقدام، الأفخاذ، الكرش العملاق، الصدر ثم الرأس، عيون جاحظة وفم غاضب، يقفز من داخله لسان شرس بعد كل صرخة يطلقها، ثم ترتفع اليد نحو الأعلى، تتهاوى فوقي الكتلة الغاضبة، أتضاءل.. تسحقني أقدامه العملاقة.
كان يعلم انه لايقوى على ذلك، كره الاحلام وتيقن انها لاتجدي نفعا، لذا قرر عدم الرجوع الى البيت.. عندها نفخ بقبضتيه ولف طرفي سترته البالية حول جسمه، مسح دموعه، بعد ان دارت عيناه الحزينتان تتفحص ما حوله، تطايرت الأوراق في الشارع المظلم الذي خلا من المارة، التقط بعض الأوراق والأخشاب أشعلها، أضاءت ماحوله وكان معهما النقطة المضيئة الوحيدة هناك..
بعد ساعات نامت جمراته أيضا، غاب ضوؤها وبدأ قلبه يخفق ببطء، ذاب جسده الدافئ على الرصيف الذي تسارع كل شئ فيه للإنجماد.

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله