د. زيد العكايشي
و من ثم وجدنا وصية الامام علي (عليه السلام) لابنه الامام الحسن(عليه السلام), التي أبانت تجارب الحكيم والناضر بدقة للأمور وبشمولية كاملة وبصفة الحليم الرفيق, الذي لم يفته موقفاً الا وتبصر به, وأخذها عبارة يعمل بها اولاً و يوصي الآخرين ثانياً, وقد جعلها الامام علي(عليه السلام) بنسيج عالٍ من القيم الفنية لتحمل المعاني السامية والدر العظيمة, ولا يمكن ان نفهم ما اودعه الا من خلال النظر البلاغي للقول الذي جرى على لسانه (عليه السلام).
ولارتباط المعاني المودعة بالوصية بفن بلاغي اعتاد البلاغيون تسميته (علم المعاني), فكان من الاولى اخذ مباحث هذا العلم وتسليطه على الوصية وتحليلها بما ينفعنا في امرين الاول: معرفة الوجه البلاغي وقوته عند المنشئ و كيفية حمل اللغة لما اراد, والثاني التأمل بعلم المعاني وارتباطه بالمعنى وبعبارة أخرى هل مباحث علم المعاني اسهمت في تأدية معنى؟ ولو لم يستعمل الامام علي (عليه السلام) هذا العلم هل جاءت الوصية بالنصوع المعهود؟.
ادب الوصايا في العصر الجاهلي حتى العصر الاسلامي
قبل البدء لابد ان نقدم بين يدي القارئ تعريفاً عن فن الوصايا, فتعني لغة « اوصى الرجل، ووصاه عهد اليه, و تواصى القوم اي اوصى بعضهم بعضاً «( 1) , نستخلص من المعنى اللغوي هو العهد من رجل الى آخر بأمر ما وغالباً ما يكون مهماً .
و ما دام حديثنا عن الوصية الادبية فسوف ننأى عن الانواع الاخرى, فالوصية الادبية «نوع من انواع الادب الحي الرفيع المنزلة تنتقى الفاظها انتقاء ممتازاً يطلقها مجرب حياة ودنيا فيشرع فيها نهجاً قويماً وسلوكاً وتنظيماً لإنسان عزيزٍ عليه او مهم لديه يبصره ما ينبغي عليه ان يفعله فيما يستقبل من حياة اذا ادلهم خطب او حزن «( 2) , الا ان هذا التعريف لم يوضح ضوابط الوصية الادبية من النواحي الفنية, اذا ما علمنا ان هناك تشابهاً بينها وبين الفنون النثرية الاخرى كالحكمة والخطبة وغيرها, و يرى باحث آخر انها « لون من النثر الفني قديم في اللغة العربية عرفه العرب وتناولوا فيه بعض جوانب حياتهم الاجتماعية وضمنوه نظراتهم الحكيمة وخطراتهم الذهنية في الاخلاق والاجتماع «( 3), وفي التعريفين يتحدد الجنس الادبي للوصية والمضمون الذي تقوم عليه والفائدة المرجوة منها الا انها لم تتعرض لنوع صياغتها, فقد ادى هذا الاتجاه الى «التنوخي» بقوله : « من فنون النثر في العصر الجاهلي تتميز بطول الجملة ووضوحها وميل الى السجع ولكنه اقل من وعظ الكهان واغلب موضوعاتها في العظة من اب الى ابنه او من ام الى ابنتها «( 4) .
ومن منطلق عناية الآباء بأبنائهم جاءت الوصايا « وصايا العرب قبل الاسلام كان يدور في فلك وصية الاباء لأبنائهم او رؤساء العشائر وذوي الحكمة الى قومهم فهي خلاصة خبرة الرجل يقدمها الى ابنائه وذويه في حياته او قبيل نهايتها «( 5), فهي – الوصية – بالنسبة للعربي زبدة خبرته يضعها امام يدي ولده, وربما للحياة الصعبة التي كان يعتنون بها ادت الى ظهور هذا الجنس الادبي, فكانت العرب توصف رجالاتها بالحكمة وغزير الفوائد, واولى بهم ان يقدمونها لمن يحبون خشية موتها بموتهم, لذا اتصف « غرضها الاساس انساني وهو بالتالي خلاصة تجارب انسان عرك الحياة وعركته وخاض ضمارها وجلى غبارها «(6) .
فالجانب الحكمي والغرض الانساني اتسم به المضمون في الوصية, اما الجانب الشكلي فتميل الى قصر جملها وقوة السبك وغلبة السجع والموازنة والازدواج بين الجمل وكثرة الامثال والحكم والاستشهاد بالشعر احياناً والتعبير المباشر بطريقة تقريرية(7), ومن امثلته وصية اوس بن حارثة يوصي ابنه مالكاً « يا مالك المنية ولا الدنية, والعتاب قبل العقاب, والتجلد قبل التبلد واعلم ان القبر خير من الفقر …» (8)
وقد تجمعت القدرات البلاغية عند الامام علي (ع) في وصاياه وخطبه التي جمعها الشريف الرضي ( ت 406 ه ), وابان فيها الاثر القرآني والنبوي من حيث المضمون, ويعد فارقاً اساسياً عما سبقه من الوصايا في العصر الجاهلي اذ لا نجد نصاً يوصي بعبادة الاوثان او تركها, اذ يحق القول: ان تلك الوصايا غاب عنها الجانب الديني, بينما نلحظ في وصايا عصر الاسلام حفلت بنقل اوامر الله تعالى على شكل فني ابرزها الوصية, فضلاً عن اتخاذ الامام علي (ع) اسلوباً لم نجده فيما قيل نحو اياك اعني واسمعي يا جارة, فالمتلقي لم يكن شخصاً واحداً بل الامة جمعاء في زمن التكلم او بعده, ويعود السبب لشخصية الموصي, الذي يرى الامة امانة في عنقه وواجب عليه ان يدلو بكل ما وصل اليه وانتهى ان يقدمه بغية الاصلاح والانتشال من الهلاك, ولا سيما منصبه الديني الذي حتَم عليه ان يضع ولده متلقيا ويصرف الحديث للجميع لإبداء رمزية الابوة لكل الامم القادمة فهي بالنسبة له عيال وهو الحامي والمعلم.
نموذجان من الوصية:
أولا :الخبر الابتدائي : وهو الخبر المحدث عند المتلقي مع خلو ذهنه من الرفض او القبول, فيتجرأ من الحكم عليه « لان المخاطب خالي الذهن من الحكم الذي تضمنه «( 9), و قد ورد الخبر الابتدائي في وصية الامام علي (ع) نحو « من الوالد الفان المقر للزمان المدبر العمر المستسلم للدهر الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى «(10), يظهر لنا ايراد الامام علي (ع) اخباراً واحداً يتلو الاخر باسترسال مع ترك المؤكدات لمطابقة ما يقوله في ذهن المتلقي, وربما ايراد الحقائق المسلمة منها دعاه من الابتعاد عن المؤكدات, فسيرة الموت والافول والانتقال من عالم الدنيا تعد من المشاهدات اليومية لكل انسان, فضلاً عن ان الموصي ابتدأ بغاية وعظية وكأنها امور مسلم بها, و نلحظ الخبر الابتدائي في موضع آخر اذ يقول عليه السلام « يا بني اكثر من ذكر الموت وذكر ما عليه وتفضي بعد الموت اليه حتى يأتيك وقد اخذت منه حذرك وشددت له ازرك ولا يأتيك بغتة فيرهبك « في المقطع اجتمع الخبر بالحكمة واختلطا, حتى يصل القارئ بنتيجة مفادها: ان الموت قادم لا محالة, و لم يحتج الى دليل او تأكيد, و الظاهر ان سلطة الغرض في الوصية ادت الى قلة الخبر الابتدائي على حساب الانواع الاخرى فعادة الموصي ان يؤكد الموصي اليه بالالتزام والامتثال, مما يوجب ايجاد المؤكدات .
ثانيا: الانشاء الطلبي : وهو « ما يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب وهو خمسة انواع : الامر, النهي, الاستفهام, التمني, النداء « ويثير الانشاء الطلبي عند المتلقي حالاً من التساؤل النفسي والوجداني عما يبديه المنشئ, فضلاً عن النشاط العقلي وما يخلقه من خيال ولاسيما في خروجه الى معان اخرى مجازية, ويعطي شد اركان الرسالة الادبية من خالق النص ومبدعه والرسالة اللغوية والمتلقي وسيلة تبعد الاركان من التشتت او الشرود الذهني, ومن اصناف الانشاء الطلبي اسلوب الامر ويعني : طلب الفعل على وجه الاستعلاء, وحدود الامر بالفعل او القول من اعلى رتبة الى الادنى لذا عد الامر «طلب الفعل على سبيل الايجاب « (11) و يطلق عليه حقيقي, اما اذا كان من الادنى الى الاعلى فيطلق عليه مجازي(دعاء)(12) واذا تساوت الرتبتان فيسمى التماس, اما الصيغ الواردة فهي اما بالفعل الامر او المضارع المقرون بلام الامر او اسم فعل الامر او المصدر النائب عن فعل الامر .
وعند استقراء وصية الامام علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) لاحظنا ورود الامر بها جلياً ولاسيما في بداية المقاطع في كلمة – اعلم – واحسب ان ورودها لم يأت من اجل امر المخاطب بالعمل بالمضمون فحسب وانما تأكيدا له – الموصى اليه – ان تؤمر به حقاً لا شبهة فيه ولا شك, بحيث مضمون الوصية دعا الى كثرة الامر, من ذلك قوله عليه السلام : « واعلم يا بني ان احب ما انت آخذ به الي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والاخذ بما مضى عليه الاولون من آبائك والصالحون من اهل بيتك « فنلحظ الامر في الاخذ بالمضمون بوصفه حق محض لا ريب فيه, ومتماشياً مع الاوامر الالهية في قضية التقوى التي طالما اكد عليها القرآن الكريم في عدة مواضع, فلا يعقل ان يوردها الامام علي (عليه السلام) الا بصيغة التغليظ بالأمر, ونجد صيغة الامر سارية في الوصية اذ اقترن الحديث عن الله سبحانه وتعالى فهو « اعلم ان مالك الموت هو مالك الحياة « ويقول ايضاً « واعلم يا بني انه لو كان لربك شريك لاتتك رسله و لرأيت اثار ملكه وسلطانه ولعرفت افعاله وصفاته « في هذا المقطع يشفع كلامه بالتأكيدات سواء ب (ان) او (اللام) مما يؤكد ما ذهبنا اليه من السلطة الموجبة للأمر, ويظهر الموصي في المقطع يبرهن سبب الامر ويفصل مجملاً ولم يدعه مشاعا بين الصدق والكذب بل اثبتها بمؤكدات قوية .
ولا نغالي بالقول ان الوصية قد بنيت على فعل الامر والطلب, مع غلبة اسباب الامر وهو موجباته حتى تظهر بشكل نتيجة ادت الى الامر واسباب النتيجة, وقد يعرض الموصي خلاصة فكرة وقوة جهده وعلو همته في الالتزام بالخير ودفع الشر, لذا مال ان تبتدئ كل المقاطع بالأمر نحو « اطرح عنك واردات الهموم»( 13) و « اكفف عليهن من ابصارهن بحجابك اياهن و» احمل نفسك من اخيك عند صرفه» و « اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك « وغيرها من المواضع .
——–
الهوامش:
(1 ) لسان العرب : ( مادة اوصى ) / ابن منظور الافريقي 711 ه / دار صادر / بيروت / ط3 , 1994 م : مادة اوصى
(2 ) جمهرة وصايا العرب / محمد نايف الدليمي / دار النظال / بيروت – لبنان / ط1 , 1991 م : / 18 .
( 3) الادب في عصر النبوة و الراشدي / صالح الدين الهادي / مطبعة المدين / القاهرة / 1987 م : 199 .
(4 ) المعجم المفصل في الادب / التنوخي / 885 .
(5 ) الوصايا في عصر صدر الاسلام / د. علي حسين محمد / بحث مجلة جامعة تكريت / العدد 1 , السنة 2012 : 211 .
( 6) جمهرة وصايا العرب : 1 / 20 .
(7 ) ظ / الادب في عصر النبوة و الراشدين : 199 .
(8 ) جمهرة وصايا العرب : 1 / 230 .
(9 ) معجم المصطلحات البلاغية و تطورها / د. احمد مطلوب / مكتبة لبنان / بيروت – لبنان /د.ط , 2007م : 480 .
( 10) نهج البلاغة / محمد بن الحسين بن موسى المعروف بالشريف الرضي (ت 406ه)/ تحقيق هاشم الميلاني / مكتبة الروضة الحيدرية / النجف الاشرف /ط2 , 2009م : 614 .
( 11) من بلاغة القرآن / د. احمد بدوي , اشراف داليا محمد ابراهيم / شركة نهضة مصر / د.ط , 2005 م : 129 .
( 12) ظ / معجم المصطلحات البلاغية و تطورها : 184 .
(13 ) م.ن : 630 .
نشرت في الولاية العدد 121